حديث الجمعة : حب الوطن والعمل على الوحدة الوطنيّة
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،
اللهمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِن فتنةِ القولِ والعَملِ، ومِن شَرِّ الأَهواءِ والأَدواءِ ومِن شرِّ السَّمعِ والبَصَرِ، ومن شَرِّ الِّلسَانِ والهَذَرِ، اللهمَّ هَبْ لنا توفِيقاً إلى الرُّشْدِ، وقلوباً تَتَقَلبُ معَ الحَقِّ، وقَلبَاً وَسَمعَاً وبَصَرَاً يَتَحَلَّى بالعِفَّةِ والصِّدقِ.
أيهَا النَّاسُ:
فيِ “تَاريخِ مَكَّةَ” للأَزْرقِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَدِمَ أَصِيلٌ الْغِفَارِيُّ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَصِيلُ، كَيْفَ عَهِدْتَ مَكَّةَ؟ قَالَ: عَهِدْتُهَا قَدْ أَخْصَبَ جَنَابُهَا، وَابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا قَالَتْ: أَقِمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا أَصِيلُ، كَيْفَ عَهِدْتَ مَكَّةَ؟» قَالَ: وَاللَّهِ عَهِدْتُهَا قَدْ أَخْصَبَ جَنَابُهَا، وَابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا، وَأَغْدَقَ إِذْخِرُهَا، وَأُسْلِتَ ثُمَامُهَا، وَأَمَشَّ سَلَمُهَا فَقَالَ: «حَسْبُكَ يَا أَصِيلُ لَا تُحْزِنَّا».
وفي “الصَّحِيحَينِ”: لَمَّا أَخبرَ وَرقَةُ بنُ نَوفَلٍ رَسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أنَّ قَومَهُ -وهُم قُريشٌ- مُخرِجُوهُ مِن مَكَّةَ، قالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ»، قَالَ وَرقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ رحمه اللهُ: “يُؤخذُ مِنهُ شِدَّةَ مُفارَقَةِ الوَطَنِ على النَّفسِ؛ فإنَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلم سَمِعَ قَولَ وَرقةَ أَنَّهُم يُؤذُونَهُ ويُكذِّبُونَه فلَم يَظهَرْ مِنهُ انزِعَاجٌ لِذلكَ، فلمَّا ذَكرَ لَهُ الإخراجَ تَحرَّكتْ نَفسُهُ لحبِّ الوَطنِ وإِلْفِهِ، فقالَ: “أوَ مخرجِيَّ هُم؟!”.
ولِهذَا طَمأَنَ اللهُ تعالى نَبيَّهُ صلى اللهُ عليه وسلم وأنزلَ عليهِ قَولَهُ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَيْ رَادُّكَ إلى مَكةَ. رواه البخاريُّ.
وكانَ صلى الله عليه وسلم يُحبُّ مَكةَ حُباً شَديداً، ثُمَّ لَمَّا هاجرَ إلى المدينةِ واستَوطَنَ بِهَا أَحبَّهَا وأَلِفَهَا كمَا أَحبَّ مَكةَ، بلْ كَانَ صَلى اللهُ عليه وسلم يَدعُو أَنْ يَرْزُقَهُ اللهَ حُبَّها كمَا في “صحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ”: “اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ”، ودعَا عليه الصلاةُ والسلامُ بالبركةِ فيها وفي رِزقِهَا كمَا دعَا إبراهيمُ عليه السلامُ لِمَكةَ.
وكذلكَ كانَ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إذَا خَرجَ مِنَ المدينةِ لِغزوَةٍ أَو نَحوِهَا تَحَرَّكتْ نَفسُهُ إليهَا؛ فعَن أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي اللهُ عنه قالَ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ، أَوْضَعَ نَاقَتَهُ -أي أَسْرَعَ بِهَا-، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا”.. رواهُ البُخاريُّ. قالَ ابنُ حَجرٍ في “الفَتحِ”: “فيهِ دَلَالَةٌ علَى فَضلِ المدينةِ وعلَى مَشروعيةِ حُبِّ الوَطَنِ والحَنينِ إليهِ”.
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ – مُعَدِّدًا طائفةً منْ مَحبُوباتِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: “وكانَ يُحِبُّ عَائشةَ، ويُحبُّ أَبَاهَا، ويُحِبُّ أسامةَ، ويُحِبُّ سِبْطَيْهِ، ويُحِبُّ الحَلواءَ والعَسَلَ، ويُحِبُّ جَبَلَ أُحُدٍ، ويُحِبُّ وَطَنَهُ”.
عبادَ اللهِ: إنَّ أَغلَى مَا يَملِكُ المَرءُ بعد دِينِهِ هُو الوَطَنُ، ومَا مِن إِنسانٍ إلاَّ وَيَعتَزُّ بوَطَنِهِ؛ لأنَّهُ مَهدُ صِباهُ ومَرتعُ طُفُولَتِهِ، ومَلجَأُ كُهُولَتِهِ، ومَنْبَعُ ذِكرَيَاتِهِ، ومَوطِنُ آبَائِهِ وأَجدَادِهِ، ومَأوَى أَبنَائِهِ وأَحفَادِهِ، وحُبُّ الأَوطَانِ غَريزَةٌ مُتَأَصِّلةٌ في النُّفُوسِ، تَجعَلُ الإِنسَانَ يَسترِيحُ إلى البَقَاءِ فَيهِ، ويَحِنُّ إِليهِ إذَا غَابَ عَنهُ، ويُدَافِعُ عَنهُ إذَا هُوجِمَ، ويَغضَبُ لَهُ إذَا انْتُقِصَ. حتَّى الحَيواناتُ لا تَرضَى بغَيرِ وَطنِهَا بَدِيلاً، ومِن أَجْلِهِ تُضَحِّي بكلِّ غَالٍ ونَفِيسٍ، والطُّيورُ تَعيشُ في عُشِّهَا في سَعادَةٍ ولا تَرضَى بغَيرِهِ ولَو كَانَ مِن حَريرٍ، والسَّمكُ يقَطَعُ آلافَ الأَميالِ مُتنقِّلاً عَبرَ البِحَارِ والمحِيطَاتِ ثُمَّ يَعودُ إِلى وَطَنِهِ، فإذَا كَانتْ هذِه سُنَّةُ اللهِ في المخلُوقَاتِ فَقدْ جَعَلَهَا اللهُ في فِطرَةِ الإِنسانِ، وإِلاَّ فمَا الذِي يَجعَلُ الإِنسَانَ الذِي يَعيِشُ في الْمَنَاطِقِ شَدِيدَةِ الحَرارَةِ، أو ذَلكَ الذي يَعِيشُ فِي القُطْبِ المتَجَمِّدِ الشَّمَالِيِّ تحتَ البَردِ القَارِسِ الدَّائمِ، أو ذَلكَ الذي يَعيِشُ في الغَاباتِ والأَدغَالِ يُعَانِي مِن مَخاطِرِ الحَياةِ كلَّ يَومٍ، مَا الذِي جَعلَهُم يَتحمَّلُونَ كلَّ ذَلكَ إلا حُبُّهُمْ لِوطَنِهِم ودِيَارِهِم!.
أيها الناسُ:
وإذَا كَانتْ مَحبَّةُ الأرضِ والوَطَنِ سُلُوكًا فطريًّا، فكيفَ تَكونُ المحبَّةُ وذَلكَ الوَلاءُ حِينَمَا يَكونُ ذَلكَ الوَطنُ المبَاركُ هُو مَهبَطُ الوَحيِ، ومَنبعُ الرَّسالَةِ؟ مِنهُ انطَلقَتِ الدَّعوَةُ المحمَّديَّةُ، وعَبْرَ بَوَّابَتِهِ دَخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ أفوَاجًا, كَيفَ إذَا كَانَ ذَلكُمُ الوَطنُ يَضُمُّ بينَ جَنباتِهِ البيتَ العتيقَ ومَسجِدَ الرَّسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، ومَولِدَهُ ومَبعَثَهُ ومُهَاجَرَهُ، ومَمَاتَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ.
كيفَ إذا كانَ ذلِكُمُ البَلدُ تُرفَعُ فيهِ رَايةُ التَّوحيدِ والعَقيدةِ؟ فلا أثَرَ ولا آثَارَ للشِّركِ ولا للوثَنيَّةِ, فيهِ المحاكِمُ الشَّرعيَّةُ، والوَزاراتُ القَضائيَّةُ، والمؤسَّساتُ الدَّعويَّةُ، وهَيئَاتُ الأَمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ، وغيرُ ذلكَ مِمَّا يُمَيِّزُ هذا البلدَ الكَبيرَ.
يقولُ سَماحةُ الشيخِ عبدِالعزيزِ بنِ بازٍ رحمهُ اللهُ: “هذهِ الدَّولةُ السعوديةُ دَولةٌ مُباركةٌ نَصَرَ اللهُ بها الحقَّ ونَصَرَ بها الدِّينَ، وجَمَعَ بها الكَلِمةَ وقَضَى بِهَا علَى أَسبابِ الفَسادِ، وأَمَّنَ اللهُ بِهَا البِلادَ، وحَصَلَ بها مِنَ النِّعَمِ العَظِيمةِ مَا لا يُحصِيهِ إلاَّ اللهُ، ولَيسَتْ مَعصُومةً ولَيسَتْ كَاملةً، كلٌّ فيهِ نَقصٌ، فالواجبُ التَّعاونُ معهَا على إِكمَالِ النَّقصِ وعلَى إزالةِ النَّقصِ وعلَى سَدِّ الخَلَلِ بالتَّناصُحِ والتَّواصِي بالحقِّ والمكَاتَبةِ الصَّالِحةِ والزِّيَارةِ الصَّالحةِ”.
حَمَى اللهُ تَعَالَى بِلَادَنَا وَبِلَادَ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، وَأَدَامَ عَلَيْنَا وَعَلَى المُسْلِمِينَ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ، إنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.