
حكايات….ليست كالحكايات…مصطفى عطية
19 أوت، 21:16
- تتحول حانة “فلورونس” بشارع قرطاج، كل صباح، إلى مقهى هادئ، يؤمه أغلب الذين عزفوا سنفونيات مساءاتها الصاخبة. ينتصب الرسام الحبيب بوعبانة في مكان مطل على الشارع متأملا الغادين والرائحين، وهو يترشف، بكثير من الأناة والإنتشاء، عصارة ما تبقى من قهوة كالحة في فنجان أبيض صغير، وقد غمر دخان السيجارة المشنوقة بين شفتيه ملامح وجهه العبوس !
يحل الشاعر عبد الحميد خريف، متأبطا كتابا وجريدة، يجذب كرسيا ويجلس غير عابئ بمن حوله، ثم ينهمك في تصفح الجريدة بدء! من صفحتها الأخيرة. يضع النادل فنجان قهوة الإكسبراس أمامه، دون أن ينبس ببنت شفة، فقد تعود على هذه الحركة الروتينية كل صباح.
كان الصمت الجاثم ينتحر على إيقاع مرور السيارات الحذرة، وقرقعة محركات الدراجات النارية المنفلتة، واصوات بعض المارة وهم يتبادلون التحيات بصوت عال.
يقف المخرج السينيمائي عمار الخليفي في مدخل المقهى، متفرسا الوجوه، يمرر يده على صلعته اللامعة، يتمتم ببعض الكلمات الغامضة ثم يواصل طريقه بٱتجاه شارع الحبيب بورقيبة، وكأنه يبحث عن شخص إفتقده منذ زمن طويل.
يرتفع، فجأة، صوت أجش من الجانب الآخر للشارع :”عمار، عمار،”، يتوقف عمار الخليفي مستتجليا مصدر النداء، ثم يهز يده ملوحا ويعود إدراجه إلى مدخل المقهى منتظرا المنادي، الكاتب والممثل المسرحي عبد اللطيف الحمروني، وهو يقطع المسافة الفاصلة بين جانبي الطريق بخطوات متثاقلة وحذر شديد.
لا تتغير صباحات مقهى “فلورونس” كثيرا إلا صباح يوم الأحد، الذي ينعقد فيه أشهر مجالس ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. يتركب المجلس من أعضاء قارين، لن يتغيبوا مهما كانت الأسباب، إلا القاهرة منها، وهم الصحافي الإذاعي الشهير ورجل المسرح عبد المجيد بوديدح، والممثلون محمد بن علي وعمر خلفة والمنصف الأزعر، والكاتب العام “الأزلي” لمهرجان قرطاج الدولي، حسن بوزريبة، والصوت السينيمائي والتلفزي وأحد رواد التنشيط الثقافي منير فلاح، والكاتب الظريف محمد السقانجي، والمخرج السينيمائي عمار الخليفي، ورجل الأمن المهوس بالمسرح محمد قمش، والأديب سمير العيادي، وذاكرة السينما محمد الكامل، وكاتب هذه السطور، أما غير القارين من الوافدين حسب الظروف والأهواء والأمزجة والمستجدات، فنذكر منهم بالخصوص الشاعر عبد الحميد خريف، والمطرب يوسف التميمي، والمسرحي البشير الدريسي، والناقد الموسيقي عبد المجيد الساحلي، والصحافي رؤوف الخنيسي ومدير فرقة مدينة تونس الموسيقى في ذاك العهد محمد القرفي.
كانت المشاكسات بين الحاضرين ترتقي أحيانا، رغم الصخب والتشنج، إلى مستوى عال من الإفادة والإثراء والطرافة. كان عبد المجيد بوديدح رافضا، رفضا قاطعا، لكل أشكال “المس من حرمة” التراث الموسيقي والفني، فلا يؤمن لا ب”هرمنة” الأغاني والمقطوعات الموسيقية القديمة، ولا بإعادة توزيعها، ولا، أيضا، ب”الدراماتورجا” والصياغة الركحية المجددة للمسرحيات الكلاسيكية، فتراه مرعدا ومزمجرا، يكاد يخرج من جبته الفضفاضة، ولولا تدخلات حسن بوزريبة لتهدئته لتجاوز الخط الفاصل بين مرحلتي الجدال المتشنج والتشابك بالأيدي.
يستغل رؤوف الخنيسي الهدنة الوقتية ليزف لنا خبر إعداد محمد السقانجي لكتاب بعنوان “الأفكار السميكة بين التياترو والموزيكا من حبيبة مسيكة إلى عز الدين بريكة” فينفجر الجميع ضحكا صاخبا، ويرفع محمد السقانجي سبابته في وجه رؤوف الخنيسي محذرا إياه من الإيغال في ثرثرته، يجذبه محمد الكامل برفق إلى الوراء وهو يكاد يختنق بنوبة من الضحك الهستيري.
يقف محمد بن علي وهو يردد :”ضاع الصباح في ثرثرة الناس الملاح، وأنا الذي كلفتني”الدار” بشراء ما تيسر من لذيذ المحار” ويهرع متوجها إلى السوق المركزي، تطارده ضحكات ومشاكسات ونداءات من سماهم “عصابة الأحد” !