حكايات…ليست كالحكايات …مقهى لونيفار…مصطفى  عطيّة

حكايات…ليست كالحكايات …مقهى لونيفار…مصطفى عطيّة

20 سبتمبر، 22:15

★ مقهي “لونيفار” : “الحنان الرسمي” للهادي القريوي، “الحميمية الكنائسية” للحبيب بوعبانة و”الخطاب الملغوم” لعلي المهذبي.
لم تكن واجهة مقهى “لونيفار”، المنتصب في موقع إستراتيجي بشارع الحبيب بورقيبة، تغري بٱرتياده، فعلى يساره مقهى “تونس” ونزل “الأنترناسيونال”، وقبالته البلماريوم ومقهي”باريس”، وجميعها تمتاز عليه بواجهاتها الجذابة، ولكن هذا الخلل في التحفيز الجمالي لم يمنعه من ان يكون مزدحما في المساءات، إلى درجة يمتد فيها الصخب بداخله كرجع صدى في أجواء ذاك الجزء الحيوي من الشارع الرئيسي.
كان الصحفي، محمد قلبي، صاحب “اللمحة” بجريدة الصباح و”الحربوشة” في جريدة الشعب، قد تعود الإنزواء داخل الحانة في ٱنتظار إلتحاق “خلان الوفاء”، كما يحلو له تسميتهم، بعد أن يكونوا قد غادروا مقرات عملهم في جرائد الصباح ولوتون ولابراس والشعب و تونس هبدو ووكالة تونس إفريقيا للإنباء، وقد كانت في تلك الفترة متناثرة بين شارع الحبيب بورقيبة والأنهج والأزقة المتفرعة عنه. يضع الكأس وعلبة السجائر أمامه وينظر متأملا ناحية الباب الخارجي. يدخل الهادي القريوي متمايلا بجثته الضخمة، ويرتمي على الكرسي بكل أثقاله الجسدية والحسية والفكرية، فيمسك محمد قلبي الكأس المترنحة بقبضته خوفا عليها من السقوط على وقع ٱرتجاج الطاولة، التي دفعها الهادي القريوي ببطنه المنتفخ. يلتحق أحمد حاذق العرف، مصحوبا بمحمد معالي، ويندسان وسط المجلس بهدوء لا يقطعه إلا السؤال الروتيني لمحمد معالي: “كيف حالكم؟”، ومن كثرة ما تعودوا على هذا السؤال فإن الحاضرين لا يكلفون أنفسهم مشقة الإجابة عنه.
يتمطى محمد قلبي ويتثائب، معلنا ضجره، فيسأله الهادي الڨريوي متعمدا إحراجه :” تعمل في وكالة تونس إفريقيا للأنباء العمومية وتكتب في يومية الصباح الخاصة وفي أسبوعية الشعب الناطقة بلسان الإتحاد العام التونسي للشغل، هذا يسمى تضارب مصالح”، يأخذ محمد قلبي كأسه وعلبة سجائره ويهم بتغيير المكان فيجذبه محمد معالي من سترته ويثنيه عن المغادرة وهو يقهقه: “لا تنزعج يا صديقي فالهادي القريوي مكلف بمأمورية إستفزازنا”، ينفجر أحمد الحاذق العرف صائحا: “قلها وأنت على دينك الماركسي يا محمد: هو مكلف رسميا”، يجيب محمد معالي بقهقهة مسترسلة يعقبها سعال: “سي الهادي يعشق الإستمتاع بالحنان الرسمي”. يغرق الجميع في نوبة من الضحك لا يقطعها إلا بائع البيض المطبوخ وهو يضع أمامهم صحنا من بيض مشطور، وقد نثر عليه نزرا قليلا من الملح والتوابل. يدس الهادي القريوي يده في الجيب الداخلي لسترته ويخرج نقودا، يتفحصها جيدا ثم يضعها في يد بائع البيض الممدودة منذ مدة ليست بالقصيرة، وهو يقول بٱستعلاء: “من شيم النبلاء الرد على الإساءة بالكرم”. يقطب أحمد حاذق العرف حاجبيه مستنكرا، ويبتسم محمد معالي هازئا، ويشعل محمد قلبي سيجارة جديدة من عقب السيجارة السابقة، متبرما.
كان المقهى قد غرق في ما يشبه الظلام، إذ أسدل الليل ستائره القاتمة لتتحدى الأضواء التي أرادها القائمون على شؤون المكان خافتة لأسباب إقتصادية، أو لخلل مزمن في أجهزة الإنارة، فلا أحد من الرواد يعرف السبب أو سأل، مرة، عنه، وكأن الجميع إكتفوا بذاك النور الذي قذفته صنوف لذة “ماء الحياة” في تجاويفهم.
كان أبو زيان السعدي قد ٱستوفي الجزء الأوفر من نصيبه اليومي من “الخضراء المعتقة” في الفلورونس والأنترناسيون، وجاء ليكمل ما تبقى له ٱستكماله في لونيفار. تسلل بين الكراسي، والسيجارة مشنوقة بين شفتيه وقد تناثر رمادها على رؤوس بعض الجالسين، فٱحتج بعضهم وصمت البعض الآخر على مضض، لكن أبا زيان لا يعبأ لا بٱحتجاجاتهم ولا بمضضهم وتبرمهم، بل يواصل طريقه نحو منضدة الحانة. هناك يجد الرسام الحبيب بوعبانة جالسا كصنم لا يتحرك إلا ليرفع الكأس إلى شفتيه. يضع منكبيه على المنضدة العريضة فيبادره النادل بوضع الكأس أمامه دون أن ينبس ببنت شفة. يلتفت إلى الحبيب بوعبانة ويسأله، وقد نزع السيجارة من بين شفتيه: “كيف كان صيد هذا الأحد؟”
كان الحبيب بوعبانة قد تعود أن يذهب كل صباح يوم أحد إلى الكنيسة، المنتصبة في شارع الحبيب بورقيبة، ويندس بين روادها، لا ليصلي، فهو ليس مسيحيا، ولكن لغاية “حميمية” جدا في نفسه، وعادة ما يصيب هدفه، ولا يغادر الكنيسة إلا مرفوقا بصديقة ثلجية جديدة، تشبه، في أغلب الأحيان، تلك السيجارة المشنوقة بين شفتي أبي زيان.
يلوح لي أبو زيان بيده فأقتحم المكان على مضض، يضع أمامي النادل ما تعودت على طلبه في ذاك التوقيت، فقد ٱشتهر هذا النادل بضبط أجندة رغبات الزبائن بدقة متناهية. يمد الحبيب بوعبانة رأسه من وراء ظهر أبي زيان ويقول لي هامسا، وقد قربت منه أذني :” لقد رسمت لوحة جديدة، حتما ستعجبك، ثمنها زهيد، أبدأ بالدفع الآن والباقي قسطه على مرحلتين أو حتى ثلاث، وستكون اللوحة عندك الليلة”!
كان علي المهذبي، قد وقف، في تلك اللحظة، خطيبا، وقد فتح ذرعيه الطويلتين بين دفتي الباب الخارجي، وهو يصيح بصوته الجهوري، :”يا صغار البورجوازيين، الهادي نويرة يسحقنا بسياساته المعادية لكل نفس إشتراكي، وانتم تنعمون بمشاهدة” أبي فوق الشجرة” ثم تحلون هنا لٱستكمال عادتكم السرية! متى سينزل أبوكم هذا من فوق الشجرة اللعينة؟”. يندفع نحوه القائمون على شؤون الحانة، مسنودين ببعض الرواد، ويدفعونه إلى الشارع الذي طالما نهشه إسفلته وسلخته ضوضاؤه.

مواضيع ذات صلة