حين سرقت الكاميرا أرواحنا… أشرف المذيوب

حين سرقت الكاميرا أرواحنا… أشرف المذيوب

29 ديسمبر 2025، 14:00

تأمّلٌ أدبيّ في حياةٍ تُعاش على البثّ لا على القلب
لم تعد الحياة تُعاش كما كانت،
بل صارت تُعرَض.
صرنا نفتح أعيننا لا على الصباح،
بل على الكاميرا،
ونمدّ أيدينا لا لنلمس العالم،
بل لنثبّت الهاتف في زاويةٍ تُرضي المتابعين.
في هذا الزمن الغريب،
لم يعد الإنسان وحيدًا،
لكنّه فقد وحدته الجميلة.
لم يعد صامتًا،
لكنّه لم يعد يسمع صوته الداخلي.
صار حاضرًا في كلّ مكان،
وغائبًا عن نفسه.
اللايف ليس مجرّد بثّ،
إنّه محكمة خفيّة،
نقف فيها عراة أمام نظراتٍ لا نعرفها،
نطلب حكمًا سريعًا:
إعجابًا، قلبًا، رقمًا
يطمئننا بأننا ما زلنا مرئيّين.
وهكذا، شيئًا فشيئًا،
صرنا نؤجّل الحياة إلى ما بعد التصوير،
ونؤجّل الإحساس إلى ما بعد التعليق.
في اللايف،
لا نأكل لنشبع،
بل لنُرى.
لا نضحك لأن الفرح فاض،
بل لأن المشهد يحتاج ضحكة.
ولا نحزن لأن القلب انكسر،
بل لأن الدموع ترفع التفاعل.
صرنا نمثّل أنفسنا،
وأسوأ الأدوار…
أن تمثّل ذاتك.
العفويّة،
تلك النعمة التي لا تُشترى،
اختنقت تحت أضواء الشاشات.
اللحظة التي لا تُصوَّر صارت تُنسى،
والذكرى التي لا تُنشَر
صارت بلا قيمة.
كأنّ الحياة تحتاج شاهدًا رقميًا
ليُثبت أنّها مرّت.
لكن الحياة، في جوهرها،
لا تحبّ الكاميرات.
تحبّ الارتباك،
الضحكة الناقصة،
الصمت الطويل،
والنظرات التي لا تُفهم
إلا بين شخصين.
الحياة تُعاش بالقلب،
لا بعدسة.
تُحَسّ،
لا تُبَثّ.
وكلّما حاولنا حبسها في إطار،
تسرّبت من بين أصابعنا.
ربما الخلاص
ليس في هجر التكنولوجيا،
بل في تذكّر حدودها.
أن نعرف متى نُطفئ اللايف
كي نُشغّل الحياة.
أن نجرؤ على أن نكون سعداء
من غير جمهور،
وأن نحزن
من غير تفسير.
في زمنٍ صار فيه كلّ شيء مباشرًا،
أصبحت الحياة الحقيقيّة
هي الشيء الوحيد المؤجَّل.
فسلام لمن اختار أن يتمتّع بـ life
من غير live،
لأنّ بعض اللحظات
إن صُوّرت…
ماتت.

مواضيع ذات صلة