ذهنية الاستعلاء والإقصاء ….بقلم الفنان الناقد عزالدين الباجي
درصاف الحمداني عرفتها منذ زمن بعيد، تلك الفنانة صاحبة الصوت الطربي الذي شدّني إليه منذ اللحظة الأولى التي سمعتُه فيها سنة 1998، من خلال برنامج مجالس الطرب الذي أشرف عليه الموسيقار الراحل حمادي بن عثمان، وأخرجه زميلي وصديقي وأخي الراحل نجيب بلهادي.
وكنتُ يومها أحد عناصر التخت الموسيقي الذي ضمّ نخبة من خيرة العازفين، أمثال عازف الكمنجة المبدع البشير السالمي، وعازف القانون البارع المرحوم توفيق زغندة، إلى جانب عددٍ آخر من الأسماء التي لا يُستهان بقدراتها ولا بعطائها الفني. كان ذلك التخت في حدّ ذاته مدرسةً موسيقية مصغّرة، يُحيلك عزفُه إلى عبق الزمن الجميل وإلى روح المقامات التي تنبض بالأصالة والاحتراف.
ورغم أنّ درصاف كانت يومها صغيرة السنّ وحديثة العهد بالتجربة، فإنها سرعان ما أثبتت حضورًا لافتًا، وقدرة على التملّك والتمكّن، وصوتًا يحمل من الدفء والرُقيّ ما يفرض الإصغاء والاحترام. كانت تغنّي بثقة من يعرف دروب النغم جيدًا، وتلوّن العبارات بذكاءٍ فنيّ نادر، كأنها وُلدت لتغنّي لا لتجرّب.
منذ ذلك اللقاء الأول، أدركتُ أن لهذه الفنانة القادمة من رحم المدرسة التونسية في الغناء، شأنًا سيكون له أثر في المشهد الفني. فقد جمعت بين الأصالة والمعاصرة، وبين التكوين الأكاديمي والإحساس الفطري، فكوّنت لنفسها هوية غنائية راقية ظلّت تتطوّر دون أن تفقد ملامحها الأولى.
درصاف الحمداني لم تكن مجرد صوت جميل، بل كانت وعدًا فنيًا صادقًا تحقّق بمرور الزمن، واستحالت تجربتها شهادة على أن الفن الحقيقي لا يُقاس بالعمر، بل بالصدق والبحث والاجتهاد، فهي الفنانة الدارسة لأصول الموسيقى ، وهو ما أضفى على أدائها بعدًا علميًا وجماليًا متكاملاً يجمع بين المعرفة والإحساس، بين الصنعة والإلهام.
وقد جعل كلّ هذا العطاء المسؤولين عن الشأن الثقافي في السنوات الأخيرة يمنحونها ثقتهم، فيُسندون إليها إدارة أيام قرطاج الموسيقية في دورتها السابعة، حيث أظهرت حنكة في التسيير والإدارة الفنية لهذه الأيام، جعلت المتابعين يشيدون بقدرتها على الجمع بين الحسّ الفني والصرامة التنظيمية، وبين الرؤية الثقافية والتخطيط العملي. لقد كانت تلك التجربة تتويجًا لمسيرة من الاجتهاد والوفاء للموسيقى بكل أطيافها وألوانها.
وتواصلت تلك التجربة الرائعة في الدورة الثامنة بنفس الإصرار والعزيمة على النجاح والتفوق، إلى أن جاء موعد الدورة التاسعة الذي صادف تعيين الفنانة أمينة الصرارفي وزيرة للشؤون الثقافية، حيث بقيت تلك الدورة على الرف إلى حين صدور بلاغ غريب في مضمونه، أثار الدهشة والاشمئزاز معًا. فقد جاء في محتوى البلاغ أنّه بإمكان كل من يرغب في إدارة أيام قرطاج الموسيقية في دورتها العاشرة التقدّم بملف وفق الشروط المنصوص عليها، والحال أنّ الدورة التاسعة لم تُنجز إطلاقًا، ولم تقم الإدارة العامة للمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الفنية والثقافية بإبلاغ درصاف الحمداني بموضوع إعفاءها من إدارة الأيام بطريقة لبقة فيها تقدير واحترام ولما لا تكريم يليق بفنانة مثقفة، بل جاء الإعفاء بتجاهل تام لا ينم عن احترام والأكيد أن ذلك بتعليمات من الوزيرة التي تمعن في احتقار الكفاءات ولا ادل على ذلك أكثر من هذا التصرف المشين، إذ علمت السيدة درصاف بالأمر عن طريق الصدفة على موقع فايسبوك⁉️⁉️
إنّ مثل هذا التصرف الذي يفتقر إلى اللياقة الإدارية وإلى أبسط مقوّمات الاحترام للطرف الآخر، يعكس ذهنية تقوم على الاستعلاء لا على التقدير، وعلى الإقصاء لا على الاعتراف بالجدارة والاستحقاق. فلو وُضعت الكفاءة في ميزانٍ عادل، يُقاس فيه العلم بالتجربة، لرجحت كفّة درصاف الحمداني بما تمتلكه من تكوين أكاديمي رصين ومسيرة ميدانية حافلة بالعطاء الفني والمعرفي.
إنّ اللجوء إلى التحايل الإداري والمناورة الشكلية، من خلال الانتقال مباشرة إلى الدورة العاشرة دون تنفيذ الدورة التاسعة، إنّما هو محاولة لتزييف الواقع وإيهام الرأي العام بأنّ درصاف الحمداني قد تولّت إدارة ثلاث دورات متتالية، والحال أنّ الحقيقة مغايرة تمامًا. هذا السلوك لا يعبّر سوى عن فراغ فكري وإداري، ويحوّل المؤسسات الوطنية إلى أداة لإقصاء من أثبتوا جدارتهم وكرّسوا حياتهم لخدمة الموسيقى والثقافة الوطنية.
إنّ ما جرى يعكس خرقًا صارخًا للأعراف والتقاليد المؤسساتية، وازدراءً واضحًا لمنجزات فنية وإدارية رصينة. إنّ هذا الأسلوب في التعاطي مع العمل الثقافي يفضح غياب الرؤية والاحترام للخبرة والكفاءة، ويحوّل المؤسسات إلى أداة لإقصاء من يستحق الاعتراف والوفاء لمسيرة النجاح. تجاوز مثل هذه المعايير ليس له أي مبرر سوى فراغ فكري وإداري، وإقصاء من أثبتوا جدارتهم وكرّسوا حياتهم لخدمة الموسيقى والثقافة الوطنية.
إنّ هذه التجربة يجب أن تكون درسًا قاسيًا لكل من يعتقد أنّ السلطة والمنصب يمكن أن يحلا محلّ الجدارة والإخلاص والفن الحقيقي. فلا يُمكن للمناصب أن تُسقط القيم، ولا يمكن لأي منصب أن يغطي على مسيرة من التفاني والإبداع المستمر، كما أنّ المؤسسات الثقافية الوطنية مطالبة دائمًا بالحفاظ على احترام الكفاءة، والوفاء لمن يستحق التقدير، وتكريم التجارب التي أثبتت نجاحها وفائدتها للمشهد الفني الوطني






