ضحكة الأستاذ (قصة قصيرة)….سالم المتهني

ضحكة الأستاذ (قصة قصيرة)….سالم المتهني

28 ديسمبر، 15:00

مرت ثلاثة أيام والأستاذ الكبير لم يدون شيئا على صفحته،عاوده العطش إلى إشعارات المعجبين الممجدة لبراعته في التحرير .لقد أصبح هذا المدح ضروريا لشعوره بالرضا وحافزا للاستمرار ،إدمانا لا فكاك منه.لكن القريحة لا تستجيب ،ماذا عساه أن يكتب؟
خط سطرا وبسط عجزه،وخاض في صعوبات الكتابة ،لكن سرعان ما مزق الورقة،إذ أحس أنه يشوه الصورة التي رسمها للقراء عن نفسه ،فهو فارس الكلم ،يطلب البلاغة فتطيعه،لا يجف مداد قلمه ولايخر جواد فصاحته.ضحك في سره من كذبه ثم سمح لضحكته أن تخرج من حنجرته واهنة،منكسرة،حاملة لمعاني السخرية والقهر والعجز،ثم خطرت له فكرة مجنونة” لماذا لا أدون الضحكة وأنشرها على صفحتي الخاصة ؟ هل سيفهمها المعجبون؟ هل سيدركون أنها تعبر عما أمر به من عقم
وعجز وانسداد سبيل ؟
“..ههه.. هههه …ههههه”
دون ضحكته في هاتفه المحمول،تردد قبل أن يضغط على زر الإرسال،لكن إبهامه كان يرى فانحنى وحسم تردده وضغط وسافر المنشور،سافرت الضحكة البلهاء.
قال في نفسه” ما هذه الحماقة التي ارتكبتها؟ أيعقل أن أنشر تدوينة لا معنى لها؟”
انتفض من مكانه،ترك الهاتف على الطاولة ،وأشاح بنظره بعيدا كأنه يبحث عما ينسيه وجود هذا الجهاز العجيب ،أشعل سيجارة،عب أنفاسا بعصبية،ذرع الغرفة جيئة وذهابا،لفظت السيجارة أنفاسها،أحس بلهيبها بين إصبعيه،سحقها في المنفضة بيد مرتعشة،أحس بنبضات قلبه تتسارع ،أصبح يتنفس بصعوبة ،هرع إلى الشرفة،سحب الهواء النقي،جرعات متتالية،بدأ يستعيد هدوءه تدريجيا،نظر إلى السيارات،إلى المارة،إلى الأشجار،إلى السماء،ثم عاد إلى الهاتف المحمول عازما فسخ المنشور،فتح الهاتف،وجد الإشعارات تتوالى بسرعة غريبة،قال في نفسه “فضحنا ورب الكعبة ،علي الآن أن أتحلى بالهدوء وأبحث عن مبرر مقنع لهذه الحماقة”
قلوب حمراء تتلاحق ،وأصابع زرقاء تتسابق،هدأ روعه
قليلا وشرع في قراءة التعليقات.
أحدهم كتب ” ضحكة بليغة ،فعلا الأوضاع مضحكة وكما قال المتنبي: وماذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء
دمت مبدعا خلاقا أديبنا الفذ .”
أقنعه التعليق بالجلوس وتصفح بقية الإشعارات ، وأشعل سيجارة أخرى ليستمرئ ما يقرأ،فقرأ” ضحكة ذات دلالات عميقة في سياقها التاريخي،ظاهرها هزل وباطنها جد،وهي قائمة بنائيا على تدرج يحاكي الضحكةالواقعية،مساوقة لانفعال الذات،فمعلوم أن الضحك يقوى كلما استرسلنا فيه،وأنا أكاد أتخيل ما الذي أضحك أديبنا الكبير،وهوفعلا مضحك،وهذا دال على قدرته البارعة في اقتناص المشهد والتعبير عنه بعفوية مدهشة لا تتاح إلا للعظماء من الرجال”
رمى عقب السيجارة في المنفضة ونسي سحقه،فظل الدخان يتصاعد إلى وجهه بخورا يعطر انتشاءه بما قرأ
أخيرا الجميلة آمال لم تترك الفرصة تمر دون أن تكتب دراسة تحليلية،بدأتها بمقدمة عرفت فيها مفهوم. الضحك،وبينت أنه خاصية إنسانية بامتياز،وضمنت قولا مشهورا في الأدب الفرنسي:”le rire est le propre de l’homme”،
ورأت أن تدوينة الأستاذ ذات بنية محكمة ،قامت على ثلاث مراحل مختلفة في الطول والمدى ،معبرة عن حالة نفسية دقيقة،موسومة في طورها الأول بضغط البدايات ،ثم أتى الاسترسال تعبيرا عن الانعتاق والتحرر وإعلان المواجهة في وجه المضحوك منه،وهو تحد شجاع في وجه الرداءة ،أما الطور الثالث من النص فعبر عن خفوت في نبرة الصوت عبر عن الرضا بعد أن قهرت الذات خوفها بإطلاق هذه الضحكة المدوية.ثم مرت إلى عنصري الزمان والمكان وعلاقتهما بالضاحك والمضحوك منه،وانتهت إلى بيان الدلالات الاجتماعية والإنسانية للنص.
انحسرت ذؤابة دخان السيجارة ثم تلاشت .وضع الأستاذ هاتفه على الطاولة ونهض وهو يبتسم ،اتجه إلى الشرفةوهو يضحك في سره ،ثم سمح لضحكته أن تخرج من حنجرته متقطعة،أطل من الشرفة مصافحا الهواء النقي بوجهه،واسترسل في الضحك عاليا،ثم بدأت رؤوس أخرى تطل من بقية. الشرفات ،لم تستطع أن تكبت ضحكاتها من أستاذ يضحك.

تأليف : سالم المتهني ( تونس)

مواضيع ذات صلة