غزة وأهوال القرن…لبنى حمودّة
“ما يحدث في قطاع غزة هو أبشع أهوال القرن الحالي”, هذه العبارة التي أطلقتها المنسقة الأممية لحقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية المحتلة, فرانشيسكا ألبانيز, هي لسان حال كل من شاهد جرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة, ورغم أن الحرب تدخل الشهر الرابع فان كل الجهود الدولية فشلت في وقف العدوان, في حين ترسانة الجيش الإسرائيلي لم تتوقف عن دك القطاع بكل أنواع الأسلحة الحديثة جوا و برا و بحرا. غزة الهاشم تحولت لمدينة مدمرة بالكامل, بيوت و مباني مهدمة, وشوارع مروية بالدم ,ورائحة الموت في كل مكان وكل ركن ,وجثث متحللة هنا و هناك على قارعة الطريق..وأحزمة نارية وقنص يطال حتى النازحون إما أمرا أو هربا أو بحثا عن ملاذات يحسبونها أكثر أمنا..
تشير أخر الإحصائيات إلى أن العدوان خلف 26 ألفا و83 شهيد و64 ألفا و487 مصابا معظمهم أطفال و نساء, وهي أعلى حصيلة ضحايا يشهدها القطاع والعدوان الأكثر دموية ووحشية فمنذ انسحاب قوات الاحتلال من غزة أربع حروب عاشها القطاع عدى الحصار و الهجمات الصاروخية و المدفعية,وهي “الرصاص المصبوب” و”عمود السحاب” و”الجرف الصامد”و آخرها هذا العدوان الذي أطلقت عليه إسرائيل اسم” السيوف الحديدية” فكانت الحرب الأفظع والأشرس عالميا, عائلات أبيدت بالكامل ومسحت من السجل المدني..جرحى دون دواء مصابين تبتر أطرافهم دون معدات طبية ولا تخدير, عمليات قيصرية دون تخدير, خدج يقع قطع الكهرباء عنهم فيموت منهم الكثير..تفاصيل يومية تصلنا من هناك لا يصدقها عقل وعربدة جنود الاحتلال بعد الاجتياح البري لا تخطر على بال بشر..من دهس للأموات و الأحياء..من اختفاء قسري للأحياء وسرقة جثث الشهداء..من تجريد المعتقلين من ملابسهم..من إعدامات للرجال بدم بارد أمام أعين عائلاتهم..من إعدامات أمام الحواجز من قصف للمستشفيات و اقتحامها وقتل المصابين وحتى المعالجين و العبث بكل المعدات وتحطيمها , من قصف لمراكز الإيواء التابعة لوكالة غوث و تشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) مما تسبب في احتراق المئات من النازحين بداخلها.. من ترك لألغام صغيرة مجهزة بصواعق في المدارس التي اقتحموها على أنها علب لحم من مخلفات الاحتلال فإذا ما تم فتحها تنفجر مسببة الموت أو البتر..من استخدام للقنابل الفسفورية التي تؤدي لإذابة جلود أطفال غزة و هم أحياء, من استخدام غازالأعصاب الذي يسبب الشلل و الهلوسة والموت المحقق, من تزويد لقذاف المدفعية والدبابات بيورانيوم “منضب” للفتك بأجساد الضحايا الأبرياء, وكلما زاد صمت المجتمع الدولي ابتكرت إسرائيل طريقة قتل جديدة وأمعنت في إهانة وإذلال شعب غزة.
و أمام فظاعة ما يحدث في قطاع غزة توجهت دولة جنوب إفريقيا في 23ديسمبر2023 إلى محكمة العدل الدولية بدعوى قضائية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب انتهاكات لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في ما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة وجاء الإعلان عن مجموعة من التدابير الطارئة التي طالبت بها دولة جنوب إفريقيا, يوم الجمعة 26 جانفي 2024 كخطوة تحسب لمحكمة العدل الدولية,والمتمثلة في:اتخاذ جميع التدابير لمنع أي أعمال يمكن اعتبارها إبادة جماعية,ضمان عدم قيام الجيش الإسرائيلي بأي أعمال إبادة,منع و المعاقبة على أي تصريحات أو تعليقات عامة يمكن أن تحرض على ارتكاب إبادة جماعية في غزة, اتخاذ جميع الإجراءات لدخول المساعدات الإنسانية,عدم التخلص من أي دليل يمكن إن يستخدم في القضية المرفوعة ضدها,تقديم تقرير للمحكمة خلال شهر بمدى تحقيق لتلك القرارات و الأحكام.
هل ما يحصل في غزة هو إبادة جماعية؟ إن ما حدث و يحدث في غزة سابقة في القانون الجنائي ليس هناك توصيف قانوني دقيق وحتى مصطلح إبادة جماعية بات هو الآخر غير دقيق, ما يحصل فضيع جدا, ومن المفارقات العجيبة التي تدعو للسخرية المريرة, إن مصطلح الإبادة الجماعية ابتدعه المحامي اليهودي رفائيل ليمكين, واصفا به أفعال النازيين ضد اليهود ..فكيف لضحية التجأت إلى القانون لتجرم النازيين أن تتحول لجلاد وتختار الحرب عوض أن تجنح للسلام؟؟ كيف لها أن تدهس القانون, وكل الأعراف الدولية, وحتى الديانة السماوية اليهودية بكل برودة دم كما تدهس الأبرياء تحت زناجير الدبابات..هذا المصطلح الذي أتى بيه محامي يهودي أقرته الأمم المتحدة سنة 1946وعرفته بكونه:” ارتكاب أي عمل من الأعمال التالية, بقصد الإبادة الكلية آو الجزئية, لجماعة ما على أساس القومية, أو العرق, أو الجنس, أو الدين, مثل قتل أعضاء الجماعة ,إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة, إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة ,بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليا أو جزئيا,فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة, نقل الأطفال بالإكراه من جماعة إلى أخرى.” كل تلك الأفعال المجرمة والمحرمة دوليا أتتها إسرائيل في غزة وتجاوزتها بمراحل,هذا المصطلح وتعريفه يذكرنا بالهولوكست, يذكرنا بهولاكو, يذكرنا بشارون, يذكرنا بالتتار, يذكرنا بمجازر البوسنة و الهرسك, بمجازر صبرا و شتيلا وغيرها.. لكن ما نشاهده يوميا في هذه الحرب تجاوز مصطلح الإبادة المتعارف عليه بكثير.
إن ما يعيشه الشعب الفلسطيني هو جحيم حقيقي من سفك للدماء ,من وأد للأحياء, من حرق للنازحين, من دهس للأبرياء,من منع للدواء وتضميد الجراح ,من قطع للماء والكهرباء, من غلق لجميع المعابر و المنافذ,من منع لدخول المساعدات .. وتأتينا الأخبار تباعا من هناك, عن استهداف للمخابز والمداجن, وحتى الشجر لم يسلم من القصف, ونسمع عمن يخلط ماء البحر بالسكر من شدة العطش, ومن يأكل الأعلاف وحتى أوراق الشجر,ويتحدث شهود عيان عن دفن لشهداء لقوا حتفهم من شدة العطش والجوع خلف مدارس الإيواء, إذا هي المجاعة تطرق أبواب غزة, “التجويع” السلاح الأكثر فتكا والقتل جوعا من أبشع الجرائم و أقساها .. ما يحدث في غزة تجاوز الإبادة الجماعية ما يحدث في غزة منعطف خطير في تاريخ البشرية.
لبنى حمودة