مسرحية «شوق» إخراج حاتم دربال : في انتصار «الأنا» على الموت بقلم / مفيدة خليل
هل أن الموت فرصة للبوح بالحقيقة ؟ هل أن حتمية الموت وقربه يحرران الانسان من قيوده ويدفعانه للتصالح مع المه وذكرياته ؟ أيهما الأقرب الى الصدق الموت ام الحياة ؟
كيف ينتصر الانسان على الموت بالهروب منه او الهروب اليه ؟ وهل أن اختلافات الانسان مع ذاته وخلافاته مع الاخر سبب للالم ؟ ذلك جزء من اسئلة كثيرة يطرحها حمدي حمايدي كاتب نص مسرحية «شوق».
«شوق» عن جون لوك لاغراس اقتباس حمدي حمايدي، تمثيل آمال الفرجي ونادرة التومي ومريم بن حسن وعبد المنعم شويات وحمادي البجاوي وسينوغرافيا وتصميم فيديو سيرجيو قازو وتوظيب الملابس ريحانة عباس وتوظيب إضاءة مراد مبخوت وصوت يوسف بوعجاجة وتوظيب ركح توفيق المرادي ودراماتورجيا وإخراج لحاتم دربال وإدارة إنتاج معز العاشوري.
الاضاءة فضاء لبوح الشخصيات باسرارها
«شوق» هو اسم المسرحية، شوق بثلاثة نقاط فوق حرف القاف وما تعنيه في اللهجة التونسية من شدة الاشتياق للشخص الاخر، هذا الاحساس الموغل في الوجع احيانا يدفع بيوسف للعودة الى بيت العائلة، ذاك الشوق يجعل الاخت ترتمي في حضن شقيقها الذي نسيت ملامحه وقد تركها طفلة، شدة «الوحش» (توحشتك، توحشت نسمعك، توحشتك خويا) كما تقول «ددو» ليوسف هو تعبيرة عن احساس داخلي بالجفاء. هذا الجفاء والخواء يعبر عنه المخرج بموسيقى كانها «النواح» صوت انين وامراة ترفع حنجرتها بالملالية، صوت رقيق يصبح موسيقى محزنة تضع الجمهور امام الم الفراق والشوق.
يحدد الركح بشريط ابيض اللون، باب في الجزء الامامي للركح، وشكل مستطيل يوحي بانه نافذة في آخر الركح، المخرج هنا حدد فضاء عرضه وحمل جمهوره مباشرة الى المنزل، كراس وضعت متفرقة تماما كتفرّق ابناء هذه العائلة وتشتت افكارهم وامالهم حسب ما تبوح به الاحداث، الضوء ازرق منتشر كامل الفضاء وكانّنا بالمخرج يضع ممثليه وشخصياته في العراء، يكشف للمتفرج حكايات تلك العائلة وأسرارها عبر مساحة مطلقة من الإضاءة الزرقاء فيقترب الجمهور وينصت لوجع يوسف وصراعه اليومي مع مرضه وغربته وذكريات عائلته، يعرف تيه «ددو» بين الرغبة في الهجرة أسوة بأخيها والبقاء في بيت العائلة احتراما لامها، يتعرف على ازدواجية شخصية «لمين» فهو صارم مع زوجته يسكتها دوما «اسكتي قلقتيه» وفي الوقت ذاته شخصيته ضعيفة أمام نفسه واخوته، الأم أيضا مع الإضاءة المتدرجة يكتشف المتفرج ثنائية شخصيتها فهي ضعيفة ووهنة ومجنونة أحيانا، ومرات تبعث فيها قوة جبارة لتتحمل وزر العائلة وكل أوجاعها.
الإضاءة في «شوق» تكاد تصبح شخصية جديدة، او هي الصوت الباطني للحقيقية، يوزع مهندس الضوء إضاءة العرض حسب ما ستبوح به الشخصية، من الضوء الأزرق المنتشر كامل الفضاء لكشف كل الشخصيات وحكاياتها، إلى الضوء الأصفر الذي يوزع فضاء اللعب الى أروقة تضيء فقط الشخصيات المساهمة في الحدث، فيتماهى الضوء مع صوت الطفولة ووجعها، ينطلق الضوء كأنه رصاصة تخترق القلب ليتحدث عن ذكريات العائلة وتشتتها.
السينوغرافيا وسيط بين المخرج والمتفرج
تختلف درجات وعي الشخصيات، ويوزع الحنين والألم حسب الظرفية النفسية لكل شخصية، تنفتح نوافذ الذاكرة على قصص الطفولة والشباب، يقرر يوسف فتح دفاتره المخفية منذ سنين فتتغير الإضاءة الى رمادية داكنة كأنها السماء الحبلى بالشجن، ينقسم الركح الى جزئين، يعتم الجزء الخلفي وتصبح الإضاءة في الإمام أكثر وكانّها تدفق للذكريات والحكايات المخباة في خبايا القلب لأعوام طويلة «حسيت روحي وحدي، بين يقظة ومنام، حبيت ناخو فرصة، اما الموت القريبة تزعزعني» كما تقول الشخصية، فالإضاءة في شوق مقياس للاقتراب من ملامح الشخصيات واكتشاف حكاياتهم وأسرارهم ومنها فكّ شيفرات العمل المسرحي المقدم.
مسرحية، داخل المسرحية، او سينما في قلب العمل المسرحي هكذا يمكن الاشارة الى التماهي بين اداء الممثلين والفيديو اخر الركح، على «سيكلو» صور كثيرة تعرض، في البداية يكون كما التلفاز يقدم اخر الاخبار ويتبعها حركة العائلة واضطرابها.
ثم تتقدم الأحداث فتصبح تلك الشاشة «ذاكرة» تبث صورا قديمة للاب بوجهه الصارم وطربوشه وهيئته الجادة، بعدها صور للعائلة، صور جد قريبة من ملامح الوجه تكشف عوراتها والامها التي تحاول الشخصية اخفاءها وقت الحديث، فتقنية الفيديو تشبه الة «السكانار» تكشف للمتفرج ما تخفيه الشخصية في داخلها المظلم، فتظهره للعلن وتحرر الشخصيات من كل القيود.