ڨابس تموت والاتحاد يتجمل  بالبيانات….محمّد خلف  الله

ڨابس تموت والاتحاد يتجمل  بالبيانات….محمّد خلف الله

24 أكتوبر، 21:45

أصدر الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 23 أكتوبر 2025 بيانًا مطوّلًا، قدّم فيه تحية نضالية لأهالي قابس ووصف تحركاتهم بـ”الملحمة الباهرة” دفاعًا عن الحق في الحياة والبيئة السليمة.
بيان بدا في ظاهره تضامنًا وطنيًا صادقًا، لكنّ من يتأمّل السياق والممارسة، يدرك أنّ هذه النخوة المفاجئة ليست إلا ركوبًا متأخرًا على نضال جهة أنهكها التلوث وأفناها الإهمال.
فما يقوله الاتحاد اليوم، هو ما كان يجب أن يقوله منذ عقود، حين كان صوته مسموعًا ونفوذه فاعلًا داخل المجمع الكيميائي والإدارة والحكومات المتعاقبة.

البيان بلُغته العالية وإيقاعه الحماسي يحاول أن يُظهر الاتحاد في موقع المدافع الأول عن قابس، لكنّ ذاكرة الناس لا تُمحى بسهولة.
منذ عقود، والاتحاد ممثَّل بنقاباته داخل المجمع الكيميائي، يملك القدرة على الفعل، لكنه اختار الصمت.
لم يفرض صيانة للمعدات، ولا راقب انبعاث الغازات، ولا اقترح حلولًا علمية لتقليص الضرر.
كان الدفاع عن “مواطن الشغل” دائمًا أولوية مطلقة، حتى لو كان الثمن هو موت المدينة اختناقًا.

نقابات القطاع أصبحت جزءًا من منظومة التواطؤ التي جمعت الإدارة والسلطة في صفٍّ واحد ضدّ البيئة والمجتمع.

في صفاقس، عندما برمجت الدولة إيقاف الانتاج بمعمل “السياب” كان من المفترض أن يقف الاتحاد في صفّ الحلّ البيئي العادل.
لكن ما حدث هو العكس: نزل النقابيون إلى الشارع دفاعًا عن استمرار النشاط الصناعي، وهاجموا نشطاء المجتمع المدني الذين نادوا بالحق في هواء نقيّ.
حدثت اعتصامات ومواجهات وبيانات، وكان المشهد واضحًا: الاتحاد يقف مع المصنع لا مع الإنسان.
مشهد التواطؤ والامعان فيه يتجلى في ذلك المحضر الفضيحة بين والي ڨابس ونقابات المجمع في 2017 و يقضي الاتفاق بنقل الفوسفوجيبس إلى منطقة الحامة.
ومازال الى اليوم من يتمسك بتنفيذ هذا المخطط الكارثة .
حلول ترقيعية تمثل جريمة جديدة بتواطؤ معلن.فالحامة ليست أرضًا مهجورة، بل واحة خضراء ومنطقة فلاحية واستشفائية يقصدها آلاف التونسيين لجمالها وعيونها المعدنية.
نقل التلوث إليها يعني ببساطة توسيع رقعة الموت، لا معالجته.
وهذا النموذج يختصر العلاقة التاريخية بين النقابات والسلطة: تفاهم ضمني لتأجيل الكارثة بدل اقتلاعها من جذوره.

إنّ ما يُثير السخرية المُرّة هو أنّ الاتحاد لم يتذكّر “الحق في الحياة” إلا حين تحرّكت قابس وحدها، وحين دفع شبابها الثمن من صحتهم ودمهم.
اليوم، وبعد أن بلغ الغضب الشعبي ذروته، يظهر الاتحاد ليُعلن دعمه “اللامشروط” لنضالٍ لم يصنعه، بل حاول في سنوات سابقة إخماده.
إنّ هذه النخوة المفاجئة في البيانات والتصريحات ليست عودة إلى الضمير، بل محاولة مكشوفة لركوب موجة الغضب الشعبي واستثمارها سياسيًا ونقابيًا.
فمن يغيب عن المعركة لعقود طويلة لا يمكنه العودة بوجه المنقذ ، فالمتأخر عن المواعيد الكبرى ليس له الا الاعتذار .

الاتحاد، بما يملكه من ثقل ووسائل ضغط، يتحمّل نصيبًا واضحًا من المسؤولية في تأزيم الوضع ،كان قادرًا على إدخال الملف البيئي في المفاوضات الاجتماعية، وعلى ربط الإنتاج بالسلامة، لكنّه اختار الطريق السهل مساومات قطاعية تُنهي الإضرابات ولا تُنهي التلوث.
إنّ تواطؤ النقابيين لا يقل عن الجرم الذي ارتكبته الدولة في ڨابس .

قابس اليوم لا تحتاج إلى بيانات تضامن متأخرة، بل إلى إرادة حقيقية وجرأة في المحاسبة.
الاتحاد العام التونسي للشغل ليس متفرجًا في هذه الكارثة، بل أحد صنّاعها بالصمت والتخاذل .

لقد ناضل أهالي قابس وحدهم لعقود، في صمتٍ خانقٍ ووسط تلوث قاتل، والآن يأتي من يركب موجتهم ويُعلن نفسه شريكًا في نصرٍ لم يصنعه.
لكنّ التاريخ، مثل البيئة، لا يرحم من تلوّث ضميره قبل أن يتلوّث هواؤه.
محمد خلف الله

مواضيع ذات صلة