الفن التشكيلي المعاصر ..  التطور المفاهيمي…رانية القلسي

الفن التشكيلي المعاصر .. التطور المفاهيمي…رانية القلسي

6 ديسمبر، 17:30

الفن التشكيلي هو عنصر اتّصال هام وجزء لا يتجزأ من البيئة التي نعيش فيها، ويمكننا القول اليوم أن قراءة الفن على انه عنصر من عناصر اللهو والبذخ انعدمت تقريبا، بعد أن اصّر رواده بالتوازي مع نقاده على إكسابه القيمة. وقد اعتبره النقاد جزء لا يتجزأ من ثقافة الناس وممارساتهم اليومية. انَّه ترجمة لمجموعة العلاقات العميقة التي تُطرح في شكل إشكاليّات استيطيقية تربط الذات بمجتمع وتختلف ترجمة هذه العلاقة من فترة إلى أخرى واكتسبت صبغةً متنوعة مع رواد الفن المعاصر.

لقد تميز الفن المعاصر تحديدا على ما سبقه من الفنون التشكيلية حيث اشتهر بالبحث عن التجديد وتمرّد على المعتاد، ولتعريف الفن المعاصر لابد من تحديد الفترة الزمنية، فقد نشأ في بدايات القرن العشرين، وقد كان متماشياً مع نهج الفن الحديث قبل بداية التمرّد على السائد. وازدهر هذا الفن بإنشاء عدد من الجمعيات الفنيّة التي سعت لبيع المنجزات الفنية للمتاحف والمعارض العامة والخاصة، إلا أن رواد هذه الجمعيات وفنانيها قد اتخذوا من فنهم منهجاً خاصاً، وكأنها كانت بداية لتاريخ الفن المعاصر الذي لا زال يُصنع حتى اليوم[1].

تأثر الفن المعاصر بالعولمة واستفاد رواده من كل ما يمكن للتكنولوجيا أن تُقدمه في حقول الفن، وهذا أَكسب الفن المعاصر روح متجددة وأنماط تُنتج بطرق متعددة ومفاهيم مختلفة يوماً بعد يوم لازمت خاصة كل من الشكل واللون وفضاء العرض، ابتداءً من الفن التجريدي والتشكيلي والفن المفاهيمي، إلى فن تشكيل الألوان واستخدام الطابعة والضوء والفيديو والموسيقى، كل تلك الأدوات استخدمها الفنانون المعاصرون لإنتاج أعمال فنية جديدة تعبّر عن روح الفن المعاصر ومنهجه. أصبح هذا الفن متنفِسا للفنان وسبيلٍ لممارسة جنونه وميولاته المتقلبة إضافة إلى كونه السبيل المتحرر للنقد بكل أنواعه.

المقدمة: ضرورة الفن

الفن بمختلف أساليبه وتقنياته هو ترجمة دقيقة لما هو مخزون داخل النفوس البشرية من انفعالات وأحاسيس، وهو ذو رسالة موجهة من قبل الفنان إلى الجماهير عبر العصور والأزمنة. والفنان يَعتبر رسالته استمرارًا لما سبق من رسالات فيؤكدها أو يجددها. إن الممارسة التشكيلية سبيل للتواصل البصري بمرحلة أولى ثم الفكري، إنها حتما من الطرق الناجحة للنقد والتعبير.

إن كلمة “فــــن” مفهوم شامل وشاسع فلغويا تدل على الصنعة والمهارة والإتقان في إنتاج الأشياء، وفي الممارسة فالفنان هو الصانِع الماهر والفنّيُ هو الصنائعي المميَز ويجمع بينهما المهارة. إذا تختلف تسميات الفنان بين حرفي وفنان وهاوٍ، غير انه ارتبط للمرة الأولى بمفهوم الصناعة مع الرواد الفن المعاصر وذلك لارتباط المنجزات الفنية الوثيق بالآلة أو التكنولوجيا. 

ولازال الفن يسير بجدلية نحو التطور والتجديد، فبدّل مواضيعه وجدد لُغته حسب الظروف المختلفة ما أدّى إلى صعوبة تحديد ماهيته أكثر فأكثر، وخاصة عند ولوج القرن العشرين الذي يمثل أكثر المراحل تعقيداً بين الفن التقليدي ومعاصر حيث ظهرت العديد من اختراعات تكنولوجية التي يوظفها الفنان في أعماله. ويمكن هنا ذكر رائد الحركة الوحشية ماتيس الذي أعطى الأولوية للون والأثر، إضافة إلى تجربة بيكاسو وبراك اللذان استطاعا أن يحققا فناً جديداً يسعى لكشف الواقع العميق بدل الواقع المرئي وحطما الشكل الظاهر نهائياً، للوصول إلى فن فيه جانب تعبيرياً درامياً، فمثل ذلك البعد الثاني للفن في القرن العشرين ويقول بيكاسو في هذا السياق: إن الأشكال تعيش حياتها الخاصة في العمل الفني ‏‏‏أي أن الفن شيء والواقع شيء آخر. ‏‏‏

اختلفت إذا الوسائط الشكليّة والتقانيّة التي وظّفّها الفن لتدخل نسق التشكيل لبعد ما بعد الحداثي وتكُون مستلهما تكتسي بقيمة معاييره الجمالية. وعن طريق بحث الفنان عن تقنية جديدة تتكفّل بإيصال وتواصل الرسالة الفنية التي تصلح لتكون حقلا للتأمل والتفكير. وجد الفن التركيبي في الصورة تقنية جديدة تساهم في كسر الأنساق الفنية السائدة وفتح آفاق جمالية مغايرة لعمل يصلح أن يكون عملاً تشكيلياً ينتمي بأسلوبه ومعاييره إلى دائرة الفن المفاهيمي يُقدم فيه الفكرة والمعنى على الشكل الظاهر.

وهنا اشتغلت الآليات الشكليّة والتقنية الجديدة لتجد مجالا للتداول داخل الحقل التشكيلي، على هذا الأساس يقوم التفاعل التواصلي الذي يعيد تشكيل الرؤى الفردية، واستخراج الرموز والاشارات الموجودة في الأعمال. وعليه يؤكد العمل على الممارسة العقلية للتأمل التي تستند على كم من التداخلات المعرفية، والتداخلات الخارجية المنبعثة من الواقع لتشكل حكايا مغايرة تمتاز بالفردية والطرافة والجرأة وعدم الالتزام بمنطقٍ محددٍ.

إن من أول التساؤلات التي يعنى بها هذا البحث هو المنظومة والكيفيات الشكلية والتقنية وتشكلاتهما الفكرية التي يُمكن من خلالها للفن التشكيلي بكل حقوله ومجاوراته أن يكون وسيطا تواصلِيا، برغم أن هذا النوع من النشاط لا يُعلن إرسالياته أو دلالاته أو تأثيره في سلوك المتلقي، ومن هنا نشأت علامات استفهام تتعلق بتساؤلات عدة منها: ما المفاهيم الفكرية والشكليّة والتقنيّة التي يستند إليها الفن التشكيلي المعاصر؟ وهل المنظومة الشكلية والتقنية في الفن المعاصر(الفن الرقمي مثلا) طريقتان لإنتاج لغة عالمية غرائبية للفن؟ وهل أثرت التغيرات الشكليّة والتقنيّة في تنوع فضاءات العرض في الفن الرقمي؟

هدفا البحث: يهدف البحث الحالي إلى:

  1. الكشف عن المنظومة الشكليّة والتقنيّة في الفن الرقمي.
  2. التعرف على نتائج تنوع فضاءات العرض للنظام الشكلي والتقني في الفن الرقمي.

حدود البحث: يتحدد البحث الحالي بالفن الرقمي للفترة من 2000 ولغاية 2020. باعتماد الأعمال الفنيّة ذات العلاقة بالفن الرقمي واستخدام الصورالموجودة بالمصادر والمواقع الموجودة على شبكة الانترنات.

المنظومة الشكليّة في الفن المعاصر الرقمي:

المنظومة الشكليّة هي مجموعة الخوّاص التي تجعل الشيء على ما هو عليه، إذ تتجمع الصفات الحسيّة وتعطي الشكل النهائي، فإذا كان هذا الشيء هو مركباً من عدة أشكال، فالتنظيم هو الذي يطلق على مجموع الأجزاء وعلاقة بعضها ببعض[2]، وهي الأساسُ الذي يحددُ الطابعَ المميزِ للشكل[3].

ويحتكم النظام الشكلي في بنيته التكوينيّة على منظومات العلاقات التفاعليّة لعناصر وأسس التكوين ضمن حقل الوسائط الافتراضيّة وبفعل ضغط تقنيات وآليات الانجاز الرقميّة.

وهذا ما يُشكل الهيئة العامّة لحدود البنية الشكليّة في اختصاصها وفي الحقل الذي تتواجد فيه، لذلك يأتي المفهوم البنائي الرقمي للشكل تبعاً لخصوصية الانجاز والضرورات الحتميّة التي تخضع لها مراحل الانجاز. فيتبلور الهيكل البنائي للشكل وعليه ينتظم الشكل في حقل الفنون البصرية بفعل ضاغط الفعل التعبيري والجمالي، ومن ثم المعرفي الفني الذي يرتقي إلى المستوى التحليلي التركيبي داخل حيز القصد والإرادة الواعِية التي ترسم بقصدية مشحونة بتَخيّل الفعل المرئي والصورة المركبّة التي تمثل لاحقاً المنظومة الشكليّة في مستواها البنائي في النص البصري التشكيلي.

إذا ما تتبعنا المفهوم البنائي والتركيبي المعرفي للشكل الرقمي فتظهر الحتمية التّحوليّة في الهيئات والمنظومات البنائية  للشكل، بفعل التراكب والتجاور السريع للأشكال والألوان عبر الحركة الأفقية والعمودية التي يتحرك فيها الشكل، وعلى مستوى التكوين الفني والضرورات الجمالية التي تضغط لتحقيق على استقرار نسبي للشكل في حدود ما يمثله في البنية الفنية في الانجاز الفني ” فالشكل يكون بسيطاً كالنقطة إذا كانت مقصورة بذاتها أو على درجة كبيرة من التعقيد والتركيب والتشابك الشكل، وهي على اختلافها تعبر عن حالة الاستقرار وتميل للمحافظة على الخبرة البشرية“([4]) وعليه فالشكل هو طريقة تنظيم عناصر المضمون بطريقة تبادلية ترابطية تستنطق قوانين البنية الشكلية حسب توجه الفنان والرسالة المتضَمِنة في المنجز.

 يكتسب الشكل الافتراضي معناه المُتخيل بفعل قانون التشكيل في داخل حقل الوسائط الرقمية الناقلة، وهذا ما تظهره المنظومات الشكليّة والبنائيّة في الفن المعاصر. وهو ما يضغط حتى تتحوّل هذه الأنظمة الافتراضية الرقميّة التشكيليّة إلى ضواغط متعددة منها ما هو بيئي ومنها ما هو معرفي سايكولوجي اجتماعي، وفي ارقي حالاته الضاغط الجمالي الاستيطيقي فضلاً عن المجاورات من المعارف الإنسانية والعلميّة والفنيّة. وهذا ما نتبنه في المنجزات الأخيرة للفنان التونسي سامي بن عامر الذي عالَج بصورة آنية وجود الفايروس كوفيد 19 وقد قال في هذا السياق“بدأ ذلك عندما وجدتُ نفسي صدفة أنجز بعض الرسوم الرقمية باستخدام برنامج Paint المتاحة على جهاز الكمبيوتر. لُعبة للتسلية تحوّلت بسرعة إلى لعبة فضول واكتشاف. كانت النتيجة مفاجئة، حيث كشَفَت رسومي عن شُخوص تتميّز بخطوط عفوية وحرّة وتنقل شحنة تعبيرية أثارت فضولي وقادتني إلى تعميقها في سلسلة من الرسوم واللوحات الرقمية. ولعّل معرضي الافتراضي “لمسة مميتة”، هو تتويج لهذه التجربة“.[5]” وقد عرضت الأعمال الفنيّة المقترحة في معرض فردي افتراضي على الشبكة العنكبوتية وهنا نستشف نجاح الفنان في الجمع بين المعاصرة وراهنية الطرح وحداثة الأداة بالتوازي مع طريقة العرض.

والمتلقي هنا  أصبح يستلم شكلاً كلياً ثم ينطلق نحو التفاصيل و يرى  ستولينتز في هذا الطرح أنه ” ليس هناك عمل فني بلا شكل مهما اختلف أو تجرّد عن مرجعيته، والشكل ليس كيانا مستقلا بل هو أشبه بنسيج العنكبوت الذي يتألف من مواد مختلفة ومنتظمة[9].  وفي الأعمال الرقمية خصوصا تكون الصورة أدق وأكثر جرأة فالفنان لا يقف أمام عجز اليد أو الأداة أحيانا كما يمكن أن يكون في فن الرسم بل انه يتحكم أكثر فأكثر في الأشكال والألوان بالتالي يكون الطَرح أجرأ ومُباشرا.

لذا فالمعاني المضمنّة في هذه الأعمال ما هي إلا مواصلة للموجود في الأعمال التصويرية السّابقة (المونليزا) غير أن التباين الكبير بين الداكن/الفاتح، القائم على قوّة اللون الصافي في علاقته ببقية الألوان يقوي من إضاءة الألوان وحدّتها. أمّا تباين الفاتح/الداكن وهو تضمين للألوان الانفعاليّة سريعة ذات عتامة ومتقدمة تحيل إلى محاولة إظهار الإحساس بصيرورة المشهد، وهذا يذكرنا مباشرة بفن البوب آرت حيث كان من الضروري أن يؤكد فنانِي ومُصممي هذا التوجه على العوامل الجاذبة كالألوان الساخنة الصريحة واستخدام اللون الأسود.

كل الأعمال الفنية المقترحة جعلت من الشّكل الملوّن يحتّل بصفة عامة على اهتمام كبير في الفكر الفلسفي الجمالي منذ أن وجدت الفلسفة، إذ يمتلئ محيطنا بالأشكال التي غالبا ما تكون بالنسبة لنا مفردات بصريّة للدلالة على استخدام وظيفي معين، وهو كذلك في جانب منه والجانب الآخر يكمن في علاقتنا الذاتية معه، فثمة اتصال بصري وإحساس يربطنا تجاه الشكل واللون، قد يبعث الراحة أو الجمال وقد يبعث دلالة معرفية أو رمزية ما، هذا الأمر يعني نسبية المعرفة والذائقة  الجمالية ويعكس حالة الاهتمام للمتصّل البصري، ويعد الباب الأوسع لقراءةِ وفهم الأعمال الفنيةِ.

إذا، إننا في العمل الفني أمام ظاهر محسوس هو الشكل والذي نرى من خلاله العمل، على الرغم من نسبيته وتنوع تمظهراته وارتباطه بالذائقة الجمالية، اذ انه يشكل خطابا اتصاليا بين ذات الفنان وذات المتلقي الذي يؤوِلُه، وما تراه ذائقته الجمالية كونه مركز الإدراك البصري والشعور الجمالي والفني، وكثيرا ما يخلط بين الشكل والهيأة، إذ تمثل الهيأة ” المظهر الخارجي للمادة أو الجسم من دون أخذ التفاصيل التي يحتويها، ولكن إذا دققنا في التفاصيل فتكون في تلك الحالة ازدواجية بين الهيأة والشكل، ولهذا فالشكل هو الصياغة الأساسية للجسم أو للمادة بينما الهيأة هي المفهوم العام للشكل “[10] .

ولهذا فالشكل هو الأساس والمنطلق في فهم العملية الفنية وبداية تشكلها، فكلها جسد يتغير. يفكر الفنان هنا بإلغاء الشك وتأسيس علاقات استييتقية وصولا الرؤية جمالية وفنية جديدة المعاصرة، حيث تخضع لميولاته ومرجعياته الضاغطة ليصنع فنًا بصياغات تجديدة. إلا أنّ التداول المفاهيمي الحديث للشكل ارتبط بمفهوم البنية: والبنية في الفن نسق من العلاقات الظاهرية لها قوانينها الخاصة من حيث أنها نسق يتصف بالوحدة الداخلية والانتظام الذاتي على نحو يضفي التطور في العلاقات وتغيير في النسق نفسه، وبذلك فان البنية في الفن المعاصر  تخضع لقانون الوحدات التكوينية للعمل الفني، إذ ليس بمقدورنا الوقوف على كليّة العمل الفنّي في حالة حدوث خللا وإرباك وطرافة في البنية الجزئية، لذلك إن الكل ينقص من جماله بمقدار النقص الحاصل في البُني الجزئية المحايثة له[11].

 الشكل هو الذي يُحدد الوجود الفني بتحديد قيمة الفكرة أو الإشكاليّة يظهر كيانها وهو الذي يرسلنا نحو الغرائبية أو يوجهنا إلى الواقع المعاش بما فيه من تجدد على كل الأصعدة حتى وان كانت عادات جديدة دخلت إلى اليومي بامتياز. انه عبر تقنيات ممارسته كالهدم والتفكيك والتركيب يُعري ما يريد الفنان التعبير عنه، وإدراك الشكل هو “عملية عقلية تتم بها المعرفة عن طريق منبهات حسيّة تأتى من كون الإنسان نظاماً باحثاً عن المعلومات منظماً لها والشكل إحدى هذه المعلومات[12]. كما يرتبط الشكل ارتباطاً أساسيا وثيقاً بالمضمون في علاقة جدلية تنصب في نهاية المطاف في تأليف الأسلوب الفني.

ويرى أصحاب نقاد الفن استحالة تحديد معنى نهائي للشكل في الممارسة المعاصرة وفي الفن بصفة عامة، فالشكل تدركه من قبل تأويلات المتلقي. وباكتشاف معنى الشكل يزاح للشروع بالبحث عن معنى آخر وهكذا يستمر المتلقي بتأويلات لا نهائية. والإبداع الفني الحقيقي يرتكز على إبداع صور أو أشكال جديدة تعبر عن أوضاع ومضامين معاصرة. و”لابد للأحداث المشاهدة التي كانت ماثلة في البداية من أن تختفي لكي تحل محلها أحداث ومشاهد أخرى، وكأن المادة الكيفية التي ولدت للاستثارة الأصلية قد اجتذبتها إليها”[13].

ونتيجة للثورات التكنولوجية والفكرية والصناعية التي أدت إلى عمل انزياحات فكرية وفنية وصار من الممكن استعارة وتوظيف آليات جديدة وتقنيات مستعارة من عالم البصريات والسينما وابتداع أساليب جديدة كالرش والصب واستخدام فضاءات واسعة لمحاولة إبداع نظام شكلي جديد متوافقا مع تقنيات إظهاره ودخل الرسام إلى عوالم جديدة، وأصبح من غير الممكن تجنيس نظام الشكل وانتمائه إلى منطقة محددة. واستعاض الفنان بمواد وخامات غير مألوفة أبدلها بالفرشاة والكانفاس كالمواد المعدنية والبلاستيكية والألمنيوم والمواد المستهلكة وصولا إلى الرقمي وتوليف عناصرها بآلية إظهار شكلي يثير الدهشة والتساؤل ويتفاعل مع معطيات عصر الحداثة وما بعدها.

ففي قسم هام من الصورة الفوتوغرافية أصبح اليوم التدخل الرقمي والمعالجة بأدوات الحاسوب يلعب دورا رياديا في إضفاء البعد الفني والتشكيلي على الصورة عمومًا، فالإضافات التشكيلية عند معالجة الصور الملتقطة تتحوّل إلى مادّة يطوعها الفنان لخدمة أفكاره الوجودية أو التشخيصية مهما كانت صعوبة السيناريو أو التخطيط المتخيل من قبل الفنان.

وفي خضم هذا المنهج الإبداعي وجدت البرمجيات الإعلامية، التي تعمل على التدخل المباشر والرقمي على الصورة، استعمالا شائعا من قبل عديد الفنانين المعاصرين، وخاصة المصورين الفوتوغرافيين الذين مثلوا وأعادوا تمثيل صورهم الشخصية في شكل لا تمثلي. ويُعد هذا التجاوز للمفهوم الأصلي للاوتوبورتريه نسقا تشكيليا مستجدا يحقق من خلاله الفنان جملة من التمثلات والمواقف والرُؤى المُغرقة في الشخصنَة. تُلخص بعض الشواهد الفنية ما سبق ذكره في جملة من التعابير المفضِية إلى العنف والطمس والاغتراب في الواقع المتناول بالنقد من قبل الفنان.

وهذا المنهج التطبيقي في الفن جعلنا أمام العديد من التجارب الفنية الثريّة هي ما حثتني على هذا البحث للغوص في آنية معني الشكل واللون. فالرقمي يساعد الفنان على تقديم المعطيات الجمالية، التشكيليّة والشكليّة بناء على المعطيات الذهنية والنفسية الخاصة واثر إنشاء الصورة. بالرغم من  نعت التقنيات الرقمية باللامادية وفي ذلك استنقاص من قيمتها في الفعل والإنشاء التشكيلي مقارنة بالتقنيات الكلاسيكية في الرسم، إلا أن قيمة هذه الأخيرة تستمد من جملة المقترحات التشكيلية المفصلية في تاريخ الفن عموما والتي أثبتت أن الرقمنة لا تعدو أن تكون سوى آلية إنشائية وليست غاية في حد ذاتها. فإمكانيات التي يقدمها الرقمي لا يمكن ـن ننفي الجانب الإبداعي للفنان فهو يبقي المُبدع والمتحكم في كل هذه الوسائط الرقمية، فبيده وأفكاره يترجم أحاسيسَه وتصوراتِه رغم تغير الوسيط. 

تطور أسلوب العرض:

يدعوا الفنانون المعاصرون صراحة إلى مقاطعة اللوحة والمتحف والمعرض كرموز للماضي وللكلاسيكية، ونادوا بمقولاتٍ ثورية منها: “على الشعب أن يشارك بصناعة فنه”، و”الفن أن تفعل ما تريد،” وأنّ “كل ما هو حياتي ومعيشي ومنتج إنساني هو فن”. وقد تنافسَ فنانو الفن المعاصر بعرض أشكال متنوعة من القمامة والنفايات حتى أنّ الإيطالي بييرو مازوني PIERO MAZOUNIعرض فضلاته مصمماً على أنها منتج جسديّ بشري. واخترعوا أساليب عرض لا علاقـة لـها بالفـن فسـجن جوزف بويـس Joseph Boys نفسه في قفص مع ذئب ثلاثة أيام ليعلن رفضه للعنصرية ضد الهنود الحمر. وقد عبّر عن ذلك الباحث والناقد الفني والتشكيلي مختار العطار في كتابه “آفاق الفن التشكيلي على مشارف القرن الواحد والعشرين” كالآتي: “دخلت خامات جديدة وأساليب غير مسبوقة على التعبيرات الفنية البصرية في النصف الثاني من القرن العشرين، فتغيرت المفاهيم التقليدية والفوارق المعتادة بين الفن والإبداع والتماثيل والرسم والحفر والتشكيل المرئي، وزالت الحواجز بين الفنون الجميلة التقليدية التي كانت مقتصرة على الرسم والتلوين وتشكيل التماثيل، واختلطت بفنون الرسم والتمثيل والموسيقى والفوتوغرافيا والسينما والفيديو والمجسمات والمسطحات بل اختلط الفن باللاّ فن وظهرت معايير جديدة يدافع عنها الفلاسفة والمفكرون[14] .

لقد تميزت فترة المعاصرة بتميز كل فنان بأسلوبه الخاص في طرح أعماله الفنيّة حيث ظهرت الفردانية في الطرح الفنّي على مستوى العرض والفضاء، كما ظهرت المواضيع الجديدة والتقنيات المختلفة والمواد الجديدة في الطرح والممارسة الفنيّة حيث أصبح كل فنان يعبر عن تيار فني لوحده أو خاص به، كما هجر جل الفنانين المراسم وصالات العرض وتوجهوا إلى الطبيعة والى العالم الافتراضي.

 لقد نفذ رواد الفن المعاصر أعمالهم على الرمل والثلج وفي الغابات وفي البحيرات، هذه الثورة الفنيّة التي شهدتها أواسط القرن العشرين كانت نتيجة لظهور ثورات تحرر الإنسان من قيود الكبت العقلي والجسدي والسياسي حيث رفض الفنان بناء الحواجز بين الفن والحياة. لقد عبروا في فلسفتهم أن الفن تحرير للإنسان من كل المظاهر التي كبلته خلال تاريخ البشرية الطويل وذلك استنادا إلى التحوّلات الفكريّة والثقافيّة التي شهدها العالم بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. أنّ فناني الطليعة الذين هاجموا المجتمع الصناعي أصروا على استخدام أدوات طبيعية خام في أعمالهم الفنية، فكانوا بذلك غير منطقيين ومتناقضين مع أنفسهم بعدما عرضوا أعمالهم في صالات مجهزة بأحدث التقنيات، واستخدموا أحدث آلات التصوير والضوء والمعلوماتية لحفظ هذه الأعمال مما يؤكد عجزهم عن الاستغناء عن الحضارة الحديثة لذا بحثوا عن علاقة بين فنهم والتكنولوجيا وكالآلة الفوتوغرافية والكمبيوتر.

لابد من التأكيد اليوم أن الفنان وجد هذه العلاقة بين الأفكار المبتكرة والآليات الحديثة، فقد أصبح الفنانون المعاصرون لا يقتصرون على التقنيات الحديثة في الممارسة الفنية فقط بل أيضا على طرق العرض المتطورة وقد أقيم أول معرض فني فردي رقمي في تونس للفنان سامي بن عامر في ماي 2020 مثلا. إن الانترانت اليوم بل الكمبيوتر بكل إمكانياته في خدمة الفنان لا لانجاز العمل فقط وإنما للعرض والبيع خاصة مع إحساس الفنان بالخطر نظرا لنقص وجود المظاهرات الفنية والمعارض التشكيليّة. اليوم، لم يعد الفنان ينتظر شغور قاعة العرض لشهور وإنما يعرض مع فنانين مختلفين ومن كل أرجاء العالم بكل سهولة فمثلا موقع conceptart.org  من المواقع التي يستغلها الفنان المعاصر فهو يحتوى على أكثر من 10000مشارك إضافة إلى موقع التواصل الاجتماعي الفايس بوك  Facebookالذي فتح بوابة شاسعة أمام الفنان.

إذا يتم عرض الفن الرقمّي المعاصر في الغالب على العناوين الالكترونية وهذه العادة في تزداد تداولا يوم بعد يوم، ويصعب تحديد درجة تأثر الساحة الفنيّة بالرقمي حيث أنها في تطور مستمر. إن طرق العرض الحديثة هذه التي غيّرت وسـائـلها في الوصول إلـى الجمـهور المستهدف لم تـكـن عرضـية أو اعـتباطية، بل أحدثـت وراءها ثورة في هذه التجربة على صعيد محتوى العروض والمحتوى التشكيلي.

لقد رأى الفنان المعاصر أمثال مارك ديبورد وأميرة الحجاب وسامي بن عامر في هذه الفضاءات المستحدثة  فرصة للتشبث باستقلاليته عن كل الفضاءات التقليدية التي كانت تربك انتاجاتهم الفنية، ولا تتيح له قدرا أكبر للتعبير عن هواجسهم الإبداعيّة بأشكال قد تزعج المتلقي التقليدي الذي يرتاد أماكن العروض العادية.

فالفنان المعاصر تقلصت اهتمامه بالقيم المادية للأثر الفنّي الذي يبدعه، وذالك باختياره إنتاج أعمال لا تتصل بأية حركة فنية رائجة سابقة له قد تتيح له أرباحا كبيرة على اللوحات التي ستواكب هذا الرواج في المؤسسات الفنية. هذه المؤسسات المؤدلجة التي تعيش اليوم أزمة في ترويج الإنتاج الفني إذ يمكن اعتبار الطبيعة التسويقية هي التي أطّرت الفنان التشكيلي والفنون المرئيّة وهي في حد ذاتها العنصر الممهد لهذه الأزمة، ليصبح نتيجة ذلك البيع والشراء محددين للقيمة الفنيّة للأعمال المعروضة في قاعات العرض.

كما عبر عن ذلك الباحث نزار شقرون حيث قال :” أعتبر إخراج عرض العمل الفنّي رؤية مخترقة لايديولوجيا سوق المال وإبرازا لنظرة جديدة لعلاقة العمل الفنّي بالجمهور وبالمدينة أيضا“. فالفنان التشكيلي المعاصر يحمل رؤية للعالم تعبر عن قضايا الإنسان المغلوب على أمره، المهمش.

 رواد الفن المعاصر يردون ان يعرضوا من خلال أعمالهم تمثيلا للإنسان المهمش في أفكاره السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والفنيّة. من هذا المنطلق نجد أن الفنان المعاصر ثوريا ومقاوما ورافضا للواقع  الذي لا يهدف إلا لتحويل كل ما هو موجود في العالم إلى سلعة وتجارة لغاية تحقيق الربح من ناحية ومن ناحية أخرى ترغب في تحويل الفـنان إلى عبّد يـخدم مصالحها وأيديولوجيتها الخاصة حتى تحقق أهدافها في السيطرة على العالم والتحكم فيه .

لهذا نجد أن المتابعين للحركة الفنية ونقاد الفن في القرن المعاصر أمثال الفنان السوري عز الدين شموط قد اتضحت لهم رؤية جديدة في كون أن هذا الفنان قد استطاع بفضل فهمِه لواقع اليوم أن يتمرد على سلطة الرأسمالية الاحتكارية التي ترغب في تدجين الفنان وفي احتكار عروضه ليتحول إلى فنان مُسير على حسب المصالح المرجوّة.

الخاتمة

عندما نَطلع على المُمارسة التصويرية الرقمية المتصلِة بالصورة الرقمية نلاحظ أنّه مجال راهنيُّ المطارحة في الفنون التشكيلية، سواء باعتباره وسيط تَقني أو وسيط فني جمالي أو باعتباره شكل من أشكال التعبير والتشكيل والنقد. ونواجه في التعامل مع الممارسة الرقمية إشكال اعتبارها آلية ومنهج مقترن بالإشهار والطباعة والفنون والحرف بصفة عامّة. ويعود هذا إلى خلوّها من الماهية الماديّة من الملمس والرائحة وغيرها من الخصوصيات المتعارف عليها ماديا.       

واستنادا إلى العديد من المقاربات التشكيلية في تاريخ الفن المعاصر والراهن، يمكن اعتبار التصويريّة الرقميّة ممارسة تُصنف ضمن الفنون الوسائِطية وبالتالي يمكن تبويبها وإدراجها ضمن آليات الفعل التشكيلي. وكما هو الحال في سياق البحث الفني، يُستعمل الرقمي كوسيط يمكننا من تحضير الصور أو معالجتها ببرمجيات رقمية تكتسب إجرائية أكثر ثراء وسرعة من الوسائل التقليدية للرسم حسب التوجه التشكيلي المقدَّم كمثال.

 في هذا السياق اندرج البحث متصلا بالمُطارحة الرقمية ضمن المقاربة التشكيلية لـ: “ الفن التشكيلي المعاصر وتطوّر المنظومة الشكليّة”، والتي تختزل طرحنا لإشكالية التطور لا نهائي والسريع للشكل واللون وفضاء العرض في الصورة الرقمية.

 بعد البحث النظري في مختلف تعريفات الانية وعلاقتها بالفعل والتفاعل في الفنون التشكيلية، صُغنا مقاربتة  تأليفية بين حضور ازدواجية الفعل والتفاعل التصويري وأسلوب العرض. يُفرز إذا استعمال الوسائط الرقميّة إنشاء لشبكة من العلاقات والتقاطبات بين الوسيط الرقمي والأعمال التشكيلية من خلال مسارات إنشاء اللوحات. وتتوّلد العديد من المفاهيم والإشكاليات المتصلة منهجيا بحضور الشكل واللون. وذلك وفقا لما تفرزه إنشائيّة العمل الرقمي سواء في مراحل التفكير في المعاش أو في مراحل الانجاز الرقمي.

في هذا البحث بعض المقاربات المتّصلة بتاريخ الفن لتحديد السياقات الفنية المتعلّقة به، ولتقديم سند لمقاربتنا التطبيقية التشكيلية المُبوّبة قدمنا بعض الأمثلة المعاصرة.

المراجع:

– سينكلير، كلاودي: تذوق الفن المعماري، ت: محمد بن حسين إبراهيم، جامعة الملك سعود، الرياض، 1986.

       –  محمد جادحامد، قواعد الزخرفة، دار المعارف الجامعية، الكويت، 1986.

–  نجم عبد حيدر : التحليل والتركيب في اللوحة العراقية المعاصرة ، أطروحة دكتوراه، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة 1996 .

– قاسم حسين صالح:الإبداع في الفن، الدار الوطنية للنشر والتوزيع، بغداد، 1982.

–  ستولنيتز، جيروم. النقد الفني، دراسة جمالية وفلسفية، ترجمة فؤاد زكريا, الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثانية، القاهرة، 1980.

– فرج عبو. علم عناصر الفن، الجزء الأول، دار دلفين للنشر، ميلانو، 1982.

– رنا حسين هاتف الخفاجي جامعة بابل/ كلية الفنون الجميلة تحولات الشكل في لوحات موندريان العلوم الإنسانية المجلد 20 العدد  3 ،2012.

– عبد الحسين ، بهاء، السمات المعمارية في النحت العراقي المعاصر ، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد، 2001 .




[2]سينكلير كلاودي: تذوق الفن المعماري، ترجمة: محمد بن حسين إبراهيم، جامعة الملك سعود، الرياض، 1986، ص25.

([4])  محمد جادحامد، قواعد الزخرفة، دار المعارف الجامعية، الكويت، 1986، ص 38.

[6] – نجم عبد حيدر : التحليل والتركيب في اللوحة العراقية المعاصرة ، أطروحة دكتوراه، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة 1996 ص171 .

[7] – قاسم حسين صالح:الإبداع في الفن، الدار الوطنية للنشر والتوزيع، بغداد، 1982، ص21.

([9]) ستولنيتز جيروم، النقد الفني، دراسة جمالية وفلسفية، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثانية، القاهرة، 1980، ص59 .

([10]) فرج عبو، علم عناصر الفن، الجزء الأول، دار دلفين للنشر، ميلانو، 1982, ص 132.

[11] – رنا حسين هاتف الخفاجي جامعة بابل/ كلية الفنون الجميلة تحولات الشكل في لوحات موندريان العلوم الإنسانية المجلد 20 العدد  3 ،2012،ص.7.

[12] – عبد الحسين  بهاء، السمات المعمارية في النحت العراقي المعاصر ، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد، 2001 ، ص 44.                           

[13]–  المصدر نفسه ، ص 43.

[14] مختار العطار في كتابه، آفاق الفن التشكيلي على مشارف القرن الواحد والعشرين، دار الشروق، ص،19 .

مواضيع ذات صلة