القيروان وصفاقس في أعلى الهرم الطفولة في قبضة الجهل والأمّية….لبنى حمودة

القيروان وصفاقس في أعلى الهرم الطفولة في قبضة الجهل والأمّية….لبنى حمودة

2 مارس، 21:00

من منا لم تكن له أحلام في طفولته؟من منا لم يحلم في صغره أن يصبح طبيبا أو طيارا أو رائد فضاء؟,وكم من حلم غذته الإرادة فتحول إلى واقع, وكم سمعنا عن أعلام تونسية في مجالات عدة عبرالتاريخ صالوا وجالوا في ساحات العلوم والابتكارات, ورفعوا علم تونس عاليا في المحافل الدولية, إن الطفولة أجمل مراحل العمر تقع اليوم فريسة للجهل والأمية,إذ تشير الإحصائيات إلى أن نسبة الأمية في البلاد بلغت 17.7 في المائة أي ما يقارب مليونا أمّي, رقما مفزعا وناقوس الخطر لا ينفك يقرع و بقوة, الصادم في الإحصائيات أن هناك مليون تلميذ انقطع عن التعليم في مرحلة التعليم الوجوبي,المفجع أن يتسرب سنويا من المدرسة حوالي 100ألف تلميذ, الأخطر أن هناك من لم يلتحق بقاعد الدراسة نهائيا إنها الطفولة في قبضة الجهل والأمية.
يعرف الأمّي بالشخص الذي يجهل القراءة والكتابة والحساب ولطالما قرنا بين مصطلح الأمّية وكبار السن, إلا أننا فوجئنا مؤخرا بفئة نشيطة تتحدث عنها الإحصائيات هم من الشباب والأطفال أعمارهم تتراوح ما بين 9 و 24 سنة وذلك نتيجة الرسوب أو بسبب التسرب المبكر من المدرسة, إننا أمام قرابة مليون منقطع عن الدراسة في حالة شبه أمّية, ما يثير الاستغراب حقا أن تتصدر القيروان أعلى النسب في الإحصائيات تليها مدينة صفاقس, القيروان منارة العلم تاريخ عريق وأعلام في شتى الميادين من منا لم يسمع عن الإمام سحنون,وأسد بن فرات والحسين بن رشيق و غيرهم ,و من منا لم يقرأ عن المساجلات الشعرية بين ابن رشيق وابن شرف, القيروان دار العلم الإفريقية احتلت المرتبة الأولى من حيث عدد الأمّيين, وكيف لصفاقس عاصمة الجنوب وعاصمة تونس الاقتصادية, كيف لرقم واحد في كل المجالات أن تتصدرهي الأخرى قائمة المدن الأكثر ارتفاعا في معدلات الأمّية أي مفارقة عجيبة؟ ,وما كل هذا التهميش لأعرق مدينتين أين مؤسسات الدولة؟وإن غابت أين المجتمع المدني؟ أين الإعلام و البرامج التحسيسية؟ هل من الطبيعي أن لا يلتحق الطفل بالمدرسة؟ أن يرسب آخرويتسرب ثالث,كم من صور تدمي القلوب لتلاميذ تكابد في ظروف بيئية قاسية وتضاريس وعرة لتلتحق بالمدرسة,وكأننا أمام معادلة البقاء للأقوى, من يتحمل جسده الصغير برودة الطقس و ضيق الحال ينجح ومن لا يتحمل يرسب أو يترسب من المدرسة, ولا لوم عليه قدره أن يبقى رقم في سجل الجهل والأمّية؟ لكن هل الموقع الجغرافي وضيق الحال فقط وراء الانقطاع المبكرعن الدراسة؟
ضعف الإطار التربوي
ألا يتحمل الإطار التربوي جزءا من المسؤولية في انتشار الجهل والأمّية بين صفوف تلاميذ التعليم الإبتدائي والإعدادي؟,كم من مرة تضطر الوزارة لتغييرمناهج التعليم؟ لكن هل الخلل يكمن حقا في مناهج التدريس أم في المدرسين أنفسهم؟وقبل التفكير في تغيير مناهج التدريس أليس من الأجدر أن تفكر وزارة التربية والتعليم في تدريب المدرسين لاكتساب الكفاءات الجدد منهم و المناوبين وماذا عن التعينات العشوائية؟ ألا يحق لنا أن نتحسرعلى أيام مدرسة ترشيح المعلمين؟ أيام كان المعلم يبذل قصارى جهده لينجح كامل القسم أين البيداغوجيا اليوم في التعليم؟ لقد سرقت اليوم المدرسة من التلميذ الحلم لم تعد المدرسة محراب علم بل ساحة عنف,عنف لم نشهد له مثيل لماذا أهدر الإطار التربوي والأولياء والتلاميذ هيبة العلم والمدرسة؟وأصبحنا نسمع عن اعتداءات تطال المعلم وحوادث متكررة وصراعات تنتقل أحيانا لساحة القضاء.
الدروس الخصوصية
ومن التلميذ إلى الولي ,الولي المطحون على الدوام,تطحنه طلبات المدرسين على مدارالسنة والتي لا تنتهي وتطحنه معاليم الدروس الخصوصية التي نشبت في قطاع التعليم كما النار في الهشيم وألهبت جيوب الأولياء المساكين, لم يعد هناك تكافؤ الفرص في التعليم ,فإذا بفكرة اقتران النجاح بالدروس الخصوصية تسيطر على ذهن الجميع التلاميذ والأولياء و المدرسين,مقايضة رخيصة لبعض العاملين في الإطار التربوي, ليت حرص المدرسين على كسب معركة الحقوق المادية مع الوزارة من احتجاجات وإضرابات وحجب للأعداد.. ليت كل ذلك الحرص يقابله الحرص ذاته في ضمان جودة التعليم حتى لا نعود نسمع عما يقارب مليون تلميذ منقطع عن الدراسة.
ظاهرة الاحتكار
كراس مدعم وآخر غير مدعم, قرصنة وقراصنة هكذا أصبح مشهد العودة المدرسية, إلى أن اختفت ملامح الفرح على وجوه التلاميذ أمام تجهم وجوه الأولياء وتذمرهم بسبب اختفاء الكراس المدعم و السعر الجنوني للكراس العادي,أمازال يوجد حيزا للحلم والطموح لدى التلميذ؟ نعم هناك من يكافح ويقطع الكيلومترات مشيا على الأقدام بهدف الوصول إلى المدرسة في ظروف قاسية, ويدرس حتى على ضوء عمود كهربائي ولا يلتحق بالدروس الخصوصية,وينجح وبتفوق, لكن لماذا نطالب التلميذ بالتحمل فوق طاقته ونلومه إن رسب أو تسرب من المدرسة وكأنه في ساحة حرب لا علم ,عوض توفيرالظروف الملائمة مع جودة التعليم.
التلميذ وشبكات التواصل الاجتماعي
فيسبوك..إنستغرام..تيك توك وبرامج تلفزية ضيوفها نجوم الإنترنت ومحورها كيف تصبح ثريا بكبسة زر, والتلميذ بات محاصرا مشتت الذهن وحلم الطبيب والعالم والباحث ورائد الفضاء ضاع في فضاء الإنترنت وقضى عليه تصريح تلفزي عن كسب للملايين بعد ساعة بث مباشرعلى الإنستغرام ,وآخر تسرب من المدرسة للبحث عن مصباح علي بابا في قوارب الموت باتجاه أوروبا فيموت غرقا في عرض البحر..إننا اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي والثورة المعرفية لا يمكن أن نسمح لأطفال اليوم, شباب الغد ومستقبل تونس, أن يتخلفوا عن ركب الحضارة أن يدمروا أنفسهم بأيديهم,أن يتوهوا في الظلام الجهل والأمّية.
الحلول لمجابهة آفة الأمية
لقد اهتمت مؤسسات الدولة بملف الأمية واعتبرته من الأولويات فأعادت وزارة التربية والتعليم مراجعة مناهج التعليم أكثرمن مرة ومنحت فرصة أخرى للتلاميذ غير المتمدرسين وذلك بفتح باب التسجيل في مدرسة الفرصة الثانية للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة وتتولى المدرسة مهام الاستقبال والتوجيه والتأهيل والمرافقة لتمكينهم بعد ذلك من مواصلة الدراسة بالمؤسسات التربوية, أو الالتحاق بمنظومة التكوين المهني أو الإعداد للاندماج بسوق الشغل,وعملت وزارة الشؤون الاجتماعية على مساعدة العائلات المعوزة من خلال منحة لكل تلميذ مع بداية السنة الدراسية, كما تحدث وزير الشؤون الاجتماعية عن مشروع إعداد سجل وطني للأميين على غرار السجل الوطني للفقر..لكن ذلك يبقى غير كاف مالم تتكاتف كل الجهود, إن المجتمع المدني مطالب اليوم أن يبذل مجهود أكبروأن لا يقتصر جدول أعماله على أنشطة مع كل بداية سنة دراسية, بل يجب عليه أن يستنفر كل طاقته للحد من هذه الظاهرة التي لا تليق بتونس وتاريخها, على الدولة والمجتمع المدني والإعلام العمل على إنقاذ الطفولة من براثن الجهل والأمية حتى تكبر تلك البراعم الصغيرة وتحقق حلمها وتكون نبراسا في سماء الوطن.


لبنى حمودة

مواضيع ذات صلة