الكاتب العربي ووَهْم العالمية…عزالدين عناية*

الكاتب العربي ووَهْم العالمية…عزالدين عناية*

18 افريل، 17:00

يحرص لفيفٌ من الكتّابعلى نقلِ أعمالهم الإبداعية إلى اللغات الأجنبية، طمعًا في كسب وجاهَة في الداخل وأَلمعيّة في الخارج، أو كما لخصّ لي أحدهم الأمر “لِنيْل الشهرة وبلوغ العالمية، وقد بلغها منهودونه باعًا وأبخس إنتاجًا”. وكأنّ اللغة التي صاغ بهاالكاتب نصّه عرجاء لا تفي بالغرض، ما لَم تتلحّف بألسنِ الأعاجم حتى يشقّ صاحبها غمار العالمية. الواقع أنّ في استبطانالعربية،أو غيرها من اللغات محدودية،مع بعض الكتّاب، تكمن علاقة مضطربة وغير سويّة للكاتبمع ثقافته،ومع لسانه.تقوم على أساس تهميش ذاتي، ينبنيعلى إعادة تدوير ثقافية بائسة لمفهوم المركز والهامش، يضع فيها الكاتبُلسانَه وإبداعَه في خانة الألسن والإنتاجات الوضيعة. والحال أنّ الإبداع بأيّ لغة كانت،ينبغي أن يُثمَّن ويُقدَّر على ما هو عليه، بوصفه استجابة طبيعية لنداء باطني.واختيار أيّ لغة للكتابة،ليس مدعاة للفخر ولا هو سببللنقيصة، لأنّ الإيمان باللسان الحامل للإبداع هو أوّل شروط التعامل السويّ. حيث يتصوّر الكاتبالواقع تحتإغراء العالمية،أنّالنصَ المدوَّن بلغات غربية تحديدًا، أوفي مستوى آخر المترجَم إلى تلك اللغات، من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام صاحبهلارتقاء المنابر العالية، وهي تهويمات خاطئة تتطلّب التفكيك والدحض.

سأستعينفي شرحِما يتّصلبلوْثة العالمية، الشائعة في أوساط الكتّاب المعاصرين،بما يدور في مجال الأعمال الأجنبية المنقولة إلى اللغات الغربية.فبموجب انشغالي بمجال الترجمة أتابع صدى ما يُنقَل من الأعمال العربية إلى اللغة الإيطالية، وبالعكس أيضا، بهدف فهم أوضاع المثاقَفة بين اللغتين. إذ يلفتالانتباه، في كثير من الأحيان، واقع “السمسرة” السائد، وأقصد بالسمسرة ليس بُعدها المادي، ولكن بُعدها العلائقي المفتقر إلى التقييم الإبداعي الحقيقي. فغالبا ما تحظى نصوصٌبالقبول، في أوساط عَرّابي الترجمة ووكلائها، لأنّ هذا الروائي، أو ذاك الشاعر، يملك شبكة علائقية ذات طابع زبائني،تُيسِّرُ لهترجمة إبداعه ومن ثَمّ تزكية نصّهلدى دُور النشر الأجنبية. وما الحديث عن مِهنيّة دور النشر الغربية وجدّيتها، سوى أمر نسبيّ،وهو مالا ينطبق على كلّ الدُّور ولا على سائر الناشرين.

ففي الأوساط الثقافية الغربية، وأتحدّثُهنا عمّا له صلةبالثقافة العربية،في مجالات الأدب والفكر والفنّ، التي أعرف طقوسها وأتابع مناخاتها،توجد في كلّ بلدغربيّ تقريبا طائفة من المستشارين تمثّل مرجعية لدى دور النشر، والمؤسسات الثقافية، والأوساط الإعلامية.وهي من تتولّى انتقاء الأعمال وتزكية الأفراد الذين يجوز وضعهم في دائرة الضوء، إعلاميا وإبداعيا، وترشيحهم إن لزم الأمرإلى نيْلِ الجوائز وحيازة التكريمات. وغالبا ما تكون الاعتبارات المحيطة بهذا الاحتفاء، ذات الطابع السياسي والأيديولوجي،حاضرة بقوة في هذا التقييمومقدَّمة على القيمة الجمالية للإبداع، ولا تمتّ بصلة للعمل بمعزل عن صاحبه.

يشهد على ذلك أنّ ما تُرجِمَ من أعمال إبداعيةعربية إلى اللغات الغربية، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ليس هو أفضل ما جادت به قرائح الكتّاب والمبدِعين العرب، ولا أرقاها تمثيلًا لإبداعات الثقافة العربية، وإنما هي أوفرها حظّا وأمتنها علاقة مع الخارج وأكثرها استجابة للمعايير المطلوبة. ولذلك لا تعني الترجمةُ الحضورَالإبداعيَّ في الساحة الثقافية الغربيةدائما، بل قد تعني الغياب أحيانا، ومضاعَفة فائض الوهْم لدى أصحابها لا غير.يفضح ذلك إدراج الترجماتالعربية في أقسام منزوية في المكتبات الغربية، تتجاور فيهامختلف أصناف الكتب الإيزوتيكية (الغرائبية)، التي يختلط فيها الأدب بالفلسفة، وعلوم الفلك بالمسكوكات،وغيرها من فنون الكتابة.ذلك بشأن النص الإبداعي العربي، وأمّا ما تعلّق بأصحابها فنادرًا ما تُتاح لهم فرصعرضأعمالهم بالشكل الذي يَعرِض به نظراؤهم الغربيون إنتاجهم الفكري والأدبي.إذ لا يُعامَل الكاتب العربي، الوافد على الغربضيفًا،ككاتب صاحب نصّ إبداعيّوإنما كناشط سياسيّ مستنْفَر، تنهال عليه الأسئلة ذات الطابع الأيديولوجي والبعيدة عن مجاله، بشأن الأصولية، والموقف من المرأة، والعلاقةبالسلطة، حين يحاوَر.أذكر حين قدم المغنّي مارسيل خليفة إلى روما، في فترة سابقة، لتقديم حفل فني، اِنهال عليه الصحفيون بالأسئلة السياسية، فضجَّ من نوعية الأسئلة التيحوّلته إلى خبير سياسيّ في قضايا الشرق الأوسط ولم تسائل فنّه وأعماله.

إذ يتصوّرُ جملة من الكتّاب العرب أنّ الترجمةَ إلى اللغات الغربية هي بوّابة الولوج إلى العالمية، والحال أنّ نقْلَ الأعمال الإبداعية دون تثبّتٍمن قُدرات ناقليها، يتحوّل أحيانا إلى مقبرة للعديد من الأعمال الإبداعية، المميَّزة في لغاتها الأصلية، وهو ما لم ينجُ منه حتى كبار الكتّاب: في إيطاليا نصّ “موسم الهجرة إلى الشمال” للكاتب الطيب صالح، ونصّ”الكرنك” للكاتب نجيب محفوظ،ونص “ذاكرة الجسد” للروائيةأحلام مستغانمي،جميعهاأُنجزت ترجماتها من قِبل طلاب إيطاليين، ليست لهم دربة سابقة بالكتابة، ولغتهم الإيطالية غضّة،إن لم نقل هزيلة ولا ترتقي إلى مستوى تلك النصوص في لغتها الأصلية. ولذلك جاءت الترجمات هزيلة ولم تتجاوزمبيعاتهاالطبعة الأولى، ناهيك عن أن دور النشر الصغيرة والمحدودة التوزيع هي التي عادة ما تتبنى نشر الأعمال العربية.

إذ لا يفوت الملمّ بأوضاع المجتمعات الغربية أنّ تصنيع النجومية، في مجالات الآداب والفنون، هو مجال خاضع للتوجيه والتوظيف والتوقيت. تُحشَد له جملة من العناصر والأدوات، وذلك بغرض إبلاغ رسالة معيّنة على نطاق إقليمي أو عالمي، أو تمرير خطّ أيديولوجي أو سياسي، أو ترسيخ نهج ذوقي أو قِيَمي، واضح الأهداف وجليّ المعالم. ولا ينال المرشَّح لذلك الدور تلك الدرجة، بمجرّد إنتاج عمل طائش، مهْمَا علا شأنه، وإنما بناء على مسار وسيرة يميّزان صاحبه، يعلِيانه إلى مصاف العالمية، ولذلك قلّة من المبدعين العرب تسنّى لهمالقيام بهذا الدور وبات لهم حضور وازن في منابر الغرب.


  • أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا

مواضيع ذات صلة