تونس على درب الانتقال الديمقراطي…بقلم د.محمد الناصر بن عرب

تونس على درب الانتقال الديمقراطي…بقلم د.محمد الناصر بن عرب

11 جانفي، 18:30

مرت عشر سنوات على اندلاع الثورة الشعبية في تونس وتطايرت شراراتها إلى الأوطان العربية حيث ردد المتظاهرون شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” وكان يرمز هذا الشعار للتخلص من الفساد والرشوة والرجعية والقمع والظلم والاستبداد والبطالة والاستغلال والاحتكار كما كان يعني أيضا إرادة الشعب تأسيس عهد جديد يمنحه الحرية والعدالة والتشغيل والكرامة.

نستطيع أن نقول اليوم أن تونس هي البلد العربي الوحيد الذي تبقى على درب الانتقال الديمقراطي إذ تمت المصادقة على عقد يربط بين الشعب والسلطات يتعهد بتنفيذ صادق علياها نواب الشعب ولنتحدث عن الوضع الاجتماعي والسياسي منذ اندلاع الثورة.

رجع على الساحة السياسية شخصيات النظام القديم المتورطة في الفساد والاستبداد مطمئنة دون عقاب. وتكاثر انتقاد عيوب الأحزاب الكبرى والحديث عن وجود أموال خاصة غامضة المصدر ومن الخارج لتمويل المنظمات السياسية والحملات الانتخابية. وبعدما تحصل حزب النهضة على الأغلبية تحالف مع ساسة النظام السابق ولم يحقق طلبات الشعب للحد من عدم المساوات الإقليمية وبالخصوص في شأن الدخل المنخفض في بلد حيث يمتلك 10 بالمائة من الأغنياء 40 بالمائة من الدخل القومي مع تجنب ضريبي مهم للغاية مما يفسر الاعتماد على المؤسسات المالية الدولية وديون خارجية تصل إلى حوالي 75 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي وربما تصل إلى 90 بالمائة في عام 2021.

لقد تفاقمت الديون في عهد نظام بن علي وارتفع قدرها بعد الثورة حتى أن الوضع أصبح يذكرنا بما حصل للدولة التونسية في عهد محمد المنصف باي في أواخر القرن التاسع عشر حيث تراكمت

ديون الدولة بالنسبة لفرنسا وحلفائها مما أدى ذلك لإفلاس الخزينة وكان ذريعة أخرى لفرنسا لاحتلال تونس.

أجلت فرنسا التراب التونسي وتأسست الدولة التونسية لبناء مجتمع مستقل الذات قائم على مؤسساته العمومية  لكن الاستعمار  يواصل التدخل في الشئون التونسية عبر المنظمات الدولية المحتكرة للاقتصاد الدولي  فتؤكد جنات بن عبد الله الصحفية والمحللة الاقتصادية  أن تونس تتجه دائما صوب تبعية مالية مدمرة للاقتصاد التونسي تكبل الدولة التونسية بالمؤسسات المالية الدولية وهو ما يزيد في شدة المديونية والخضوع إلى الإصلاحات الهيكلية التي وضعها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي مقابل تمويل الدولة التونسية في صيغة قروض دمرت المؤسسات العمومية وأثقلت الضرائب والأداءات وجمدت الأجور والإنتدابات في الوظيفة العمومية.

إحدى عشرة حكومة تداولت السلطة منذ اندلاع الثورة في تونس كان كل منها يروج بتنمية أقاليمالجمهورية التي تم اقصائها منذ الاستقلال. لكن الفوارق بين المدن الساحلية والمدن الداخلية تفاقمت منذ الثورة ولم يتحقق تغيير الوضع لتوفير الموارد والخدمات العامة لصالح المواطنين وبالخصوص الأقاليم التي بادر سكانها بالاحتجاجات والمظاهرات الشعبية سنة 2011 ضد الفقر والكساد وغياب تنمية مستدامة تقضي على البطالة وقد سقط من أجلها أكبر عدد من الشهداء في تونس. واليوم ما زال معدل الفقر مرتفع في الوسط الغربي الذي يتكون من ثلاثة أقاليم – سيدي بو زيد، القصرين والقيروان –

ففي القصرين مثلا 50 بالمائة من السكان ما زالوا يعانون من الفقر أشده. كما أن البطالة بين الشباب ما زالت هائلة حيث ترتفع نسبتها بالقصرين إلى 43 بالمائة عند الشباب الذي تتراوح أعمارهم بين 18 و34 سنة. ولا يزال معدل الخمول لخريجي الجامعات يتجاوز 30 بالمائة مما أدى ذلك إلى هجرة الآلاف منهم إلى الخارج.

إن السياسة الاجتماعية في كل الحكومات المتعاقبة منذ 2011 لم تختلف عن نظام بن علي. فهي تقتصر على المساعدة المادية والوظائف غير المستقرة التي أعادت تنشيط روابط التبعية مع الفئات الشعبية الضعيفة من السكان لصالح حزب النهضة وشبكات التجمع الدستوري الديمقراطي الذي تم إلغائه سنة 2011.

وبما أن الثورة لم توفر التنمية التي وعدتها للشباب وبقيت البطالة شاملة وهيكلية اشتدت الاحتجاجات ولم يعد الأمن مضمونا في الأحياء الشعبية بسبب مواجهة أعوان الأمن، الممثل الرسمي في الشارع للدولة. وفي الحقيقة فإن استمرار الغضب وهذه المظاهرات والمواجهات بين الأمن والشباب طبيعي للغاية لأن الدولة عجزت عن توفير التشغيل والخدمات العامة للعيش الكريم ولم تستطع تغيير الأوضاع البائسة للكادحين وللمحتاجين. وبقي حاملو الشهادات الجامعية العليا دون عمل واستمر تدهور القدرة الشرائية. وبدلا من وفاء النظام بوعده إبان الثورة، لم يكن للنظام بدٌّ إلا استعادة السلطة بالقوة وتوفير الوسائل الناجعة لأعوان الأمن لمقاومة الاحتجاجات الشبابية في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية التي تعتبرها الدولة همجية وتطرفا وإرهابا مثلها مثل تطرف وإجرام وإرهاب بعض الأحزاب. فكان ذريعة للدولة التونسية أن تطلب النجدة من حلفائها من الدول الغربية بمزيد من حجم المساعدة العسكرية الأجنبية المكثفة لمكافحة الاحتجاجات الشعبية التي تعتبرها إرهابا لا يختلف عن تطرف العصابات والأحزاب التي تقترف الاجرام. وفي حد ذاتها لا تختلف هذه المساعدات العسكرية الأجنبية عن القروض المتتالية من الدول الغربية التي تكبل التنمية والإنتاج الوطني وتمنع الشعب التونسي من الاعتماد عن نفسه وتحقيق اكتفائه الذاتي.

لما عجزت الدولة التونسية في تمويل مشاريعها قبيل وبعد نظام بن علي شرعت في اعتماد الدولة على طلب القروض التي تتوفر من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكن المديونية تفاقمت شيئا فشيئا. وعوض تسوية مسألة المديونية المشروطة بمراجعة فقه القضاء الدولي لصالح الدولة التونسية والشعب استمر المسئولون بعد الثورة في كل الحكومات المتعاقبة في طلب القروض من الاتحاد الأوروبي والخضوع للتمويلات المشروطة المرتبطة بالبرامج الإصلاحية والتقشفية لصندوق النقد الدولي. وها نحن نشاهد اليوم تكرار ما حصل للمملكة التونسية في أواخر القرن التاسع عشر.

طيلة حوالي 50 سنة، التزمت الدول الأوروبية ضمان القروض التي تحصلت عليها المملكة التونسية من البنوك الفرنسية والأوروبية في حالة عدم تسديدها. ولما أفلست خزينة المملكة التونسية ولم يقع تسديد الديون المقترضة تحصلت فرنسا على ذريعة من ذهب تسمح لها الهيمنة على سيادة المملكة التونسية بنهب ثرواتها وإجبار محمد الصادق باي التوقيع على “معاهدة باردو” واحتلال تونس سنة 1881.

واليوم يتضح أن أغلبية الميزانية المقترضة من الخارج ترصد لتسديد أصل وخدمة الديون والقليل منها يخصص لمصاريف الاستهلاك والانفاق العام وليس لخلق الثروة والاستثمار. ومضت تونس في انخراطها بمنظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر. ولم تبادر تونس في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لإلغاء الديون المصنفة بالكريهة والتي من الممكن الاتفاق على إعفائها.  تدني مستوى النمو وتقلص الاستثمار وتعطلت آلة الإنتاج ولم يقع الحفاظ على مقومات سيادة الدولة التونسية واستقلالية قرارها السياسي والاقتصادي وأمنها الوطني بمفهومه الشامل.

لم تتمكن الثورة من تلبية مطالب الشعب لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة الشاملة والمتوازنة بين أقاليم الجمهورية. فشرع حزب النهضة ابتداء من 2013 في تشكيل معاهدات بينه وبين حزب نداء تونس، الحزب الذي أسسه قائد السبسي وزير الداخلية السابق في عهد الحبيب بورقيبة والذي جمع شمل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي وكل الحركات الديمقراطية ضد حزب النهضة.

لقد تبخرت طموحات حزب النهضة الاسلامي التي كانت تريد السلطة لوحدها. ولما فشلت انتفاضات الإسلاميين في مصر واليمن وسوريا والبحرين، أدى هذا الأمر إلى عزلة الثورة التونسية عن التيار السياسي الإسلامي الذي عم في العالم العربي وتفاقم التوتر حول الخطر الإسلامي المفترض. ولما وقع اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي شاعت الأخبار أن حزب النهضة كان متورطا في هذه القضية. ولهذه الأسباب فقد حزب النهضة تفوقه السياسي وقرر أن يتنازل عن قطع الصلة بينه وبين النظام السابق وأن يتم إعفاء كل المتهمين في القمع والفساد والرشوة ويتقاسم السلطة مع مسئولي النظام السابق.

ومهما كان الأمر تضل اليوم تونس البلد العربي الوحيد على درب الانتقال الديمقراطي رغم خيبة آمال الشعب التونسي. لكن الشعب فاز على الأقل بحرية التعبير. والاحتجاجات والمظاهرات الشعبية المتكررة ما هي إلا تعبير عن غضب الفئات الشعبية الضعيفة لعدم التزام الثورة في مكافحة البطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولصد هذه الانتفاضات تدخل الأمن بقوة وتوترت العلاقات بين القاعدة والقمة ولم ييأس الشعب. فاشتد حماسه إثر احتجاجات شهر نوفمبر 2020 التي جمعت آلاف الشبان بقرية الكامور حذو المناطق الصحراوية حيث توجد أهم الحقول النفطية في تونس وطالبوا بالتوظيف والتنمية وحقهم في توزيع عادل لثروة البلاد. وعلى درب الانتقال الديمقراطي استطاع المتظاهرون بصفة شرعية وبتنظيم ديمقراطي ذاتي مستقل تحقيق طلباتهم دون الصخب المعتاد لمقاومة القمع الأمني ونجحوا في إحباط محاولات السلطة اتهام الشباب بالعنف والتمرد والفوضى العارمة. وبعد 117 يوم من انقطاع إنتاج النفط وافقت الحكومة على توقيع اتفاقية تستجيب بشكل إيجابي لأغلبية مطالب المتظاهرين.

لقد أصبح هذا الاعتصام السلمي والذي حشد منذ 2017 آلاف الشباب للمطالبة بالتشغيل والتنمية مثلا يعتبر. لأن الشعب أدرك أن المطالبة بالكرامة والعدالة بصفة سلمية هي الوسيلة الناجعة لتغيير ظروفهم الاجتماعية لما هو أفضل وأن حل الأزمة الهيكلية التي تمر بها البلاد التونسية اليوم تبقى غير مؤكدة. وأصبح جليا أن حزب النهضة فقد التزامه الثوري وانصهر نوعا ما في بحر الليبرالية الجديدة وبالتالي فقد ثقة جزء من قاعدته الاجتماعية دون إقناع الأطراف البورجوازية المهيمنة في المجتمع.

لقد انتخبت أغلبية الشعب التونسي الرئيس قيس سعيد اعتمادا على خطابه المطمئن ونزاهة شخصه وسلامة سيرته. واعتقد الشعب اعتقادا راسخا أن الرئيس الجديد هو الوحيد القادر على تغيير وتحسين أوضاعه المزرية وبعث التنمية ومنح التشغيل للشباب والبطالين والدفاع عن حقوقهم. لكن الرئيس قيس سعيد لم يقدم للشعب في حملته الانتخابية أي مشروع سياسي واجتماعي وتنظيمي لتلبية مطالب الطبقات الشعبية الضعيفة. وبما أن الحكم في التغيير الاجتماعي أصبح من صلاحيات المجلس الوطني التأسيسي، لم يستطع الرئيس تلبية طلبات الشعب. وقد عجز أيضا الاتحاد العام التونسي عن مساندة قضايا العمال والكادحين نظرا للاختلافات المزمنة الواقعة بين أعضائه للحصول على الإدارة التنفيذية. أما اليسار فلقد تلاشت قدراته للتضامن مع الشعب بسبب صراعات طموحات قادته وتأييدهم لحزب نداء تونس ضد الاتجاه الإسلامي المعادي للحركات الفكرية التنويرية.

لا شك أن الدستور الجديد كان تقدميا لضمان حقوق الشعب التونسي في حرية التعبير والعدالة والكرامة والدفاع عن حقوق الانسان والتشغيل والتنمية المستدامة لكن الحقيقة المزرية التي يعيشها الشعب تخالف ما ينصه الدستور الذي بقي حبرا على ورق دون فعالية.   

لقد اندلعت الثورة سنة 2011 ضد الاستغلال والاستبداد والقمع والفساد والرشوة والفقر والبطالة ومن أجل غياب التنمية في الولايات الداخلية والضواحي النائية على السواحل التونسية.

 لكن طيلة عشر سنوات لم تستطع الحكومات المتتالية بعد الثورة تلبية مطالب الشعب لتشغيل العاطلين وتعزيز الأعمال التجارية الصغيرة في كل القرى والحق في الضمان الاجتماعي والمدرسة للعائلات المحتاجة أيضا ومقاومة الاحتيال الضريبي ومراقبة الأسعار الباهظة التي لا تسمح للكادحين والضعفاء التكفل بمعيشة أسرهم. ولم تشرع الدولة في مكافحة الفساد الذي تغلغل في الدولة والإدارة العمومية ويستمر في تهديد المسار الديمقراطي.

فكيف نحافظ على دستور بلادنا لنجاح الانتقال الديمقراطي ؟

1)التطبيق العاجل لما تم الاتفاق عليه ضمن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والرشوة والقضاء عليه في الإدارة والدولة.

2) الشروع في تنظيم مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لإلغاء الديون المصنفة بالكريهة والحد من نزيف التدين وخيار الاعتماد على الموارد الذاتية.

3) مراقبة وزارة التجارة والصناعات التقليدية لكل عمليات التوريد مراقبة شديدة ومنع المنافسة للإنتاج الوطني.

4) اللامركزية والعمل على تسريع وتيرة تنفيذها.

5) تشجيع قطاع الزراعة والفلاحة للاكتفاء الغذاء الذاتي.

6) تعديل النظام الضريبي لفائدة المستثمرين ومكافحة التهرب الضريبي والحد من الإعفاءات الضريبية للشركات الأجنبية والسعي إلى جذب رؤوس الأموال الفردية من الخارج وتشغيلها بداخل البلاد التونسية.

7) الرجوع إلى النظام الرئاسي    

مواضيع ذات صلة