تونس مَهْدُ الرّبيع العربي… وقَبْرُه!                                                                                            سليم مصطفى بودبوس

تونس مَهْدُ الرّبيع العربي… وقَبْرُه! سليم مصطفى بودبوس

11 أكتوبر، 21:02

تونس تلك الشمعة المضيئة في سماء العرب، منها سطع نجم الحرية ذات يناير من العام 2011، وفيها دشّن التاريخ ما سُمّي بالربيع العربي، اتّفقنا في شأنه أو اختلفنا…تونس الّتي قدّمت للعالم دروسا عظيمة في الوحدة الوطنية بعد هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (ت2019)… تونس التي رَوَتْ بدماء جنودها ومناضليها أرض الخضراء لتطهّرها من الدواعش وأشباههم، والملاحم على ذلك عديدة وشهيدة…

 تونس التي خطّت دستورا جديدا سنة2014  فأثنى عليه العالم بأسره… تونس التي حافظت على وحدتها بالرغم من كل المحاولات الداخليّة والخارجيّة للتفريق بين مكوّنات المشهد السياسي ولضرب النموذج التونسي الذي حافظ على اعتداله وسلميّته ولم ينجرّ إلى الاحتراب والاقتتال كما حصل في ليبيا وسوريا واليمن…

تونس التي قدّمت مثالا في الحوار وقبول الآخر والاختلاف فنالت بفضله جائزة نوبل للسلام العام 2015م مع الرباعي الراعي للحوار الوطني.. 

تونس، تلكم، يا سادتي تجد نفسها اليوم في أَتون انقسام شعبي حادّ، انقسام في الرأي والموقف يعصف بوحدتها الوطنية التي أقسم الجميع على الحفاظ عليها، وحذّر الجميع من خطرها الذي يُهَدِّدُ وجودها واستقلالها وسيادتها، وأوّل المحذّرين من ذلك الرئيس التونسي قيس سعيد ذاته في لقاء بالأمنيين في مايو االماضي حين قال:” إنّ الأخطار التي تهدّد الدول ليست العمليات الإرهابية التي تقوم بها مجموعات أو من يتخفّى وراءها، بل إن الخطر الحقيقيّ هو تقسيم الدولة ومحاولة ضربها من الداخل تحت تأويلات لنصّ دستوري أو نصّ قانوني”.

لقد غدا كلّ يوم عطلة(يوم الأحد تحديدا) مرتعا وملعبا للمتظاهرين في ميادين المدن الكبرى وشوارعها وخاصة في العاصمة تونس: جولة ذهاب لأنصار الرئيس ومَن ضاقوا ذرعا بالبرلمان المنتخب والحكومات الفاشلة، وجولة إياب لمعارضي قرارات الرئيس ومَنْ يعتبرون ما أقدم عليه قيس سعيد في 25 يوليو/جويلية انقلابا على الشرعية والدستور… وحشد، وغليان طوال الأسبوع في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحف ووسائل الإعلام الداخلية والخارجيّة…

لقد شهدت تونس منذ ثورتها في عام 2011 الكثير من التغيّرات والأزمات والمنعطفات الحادّة، لكن لم تشهد مثل هذه المرحلة الدقيقة والعصيبة من الانتقال السياسي: برلمان مجمّد، ودستور معطّل، وحكومة في الأفق المجهول، وتجميع شبه تامّ للسلطات بيد الرئيس، وأزمة اقتصادية خانقة،  وقضايا تلاحق بعض نوّاب البرلمان المجمّدين، وأخرى يلوّح بها الرئيس تهديدا ووعيدا لبعض الخصوم…

لكنّ الأخطر والأدهى والأمرّ هذا الشارع الشعبيّ المنقسم انقساما حادًّا إلى مؤيّد للرئيس ومعارض له، وهذا طبيعي في ظاهره وبطبيعته فلا يخلو موقف في السياسة من مؤيّد ومعارض، لكن ويا لَلأسف ما لم يألفه الشارع التونسي الافتراضي والحقيقيّ هي نبرة الحقد والتشفّي من هذا الجانب أو ذاك، موجة غير مسبوقة من الاتّهام والاتّهام المتبادل والسبّ والتعريض بل والدعوة إلى طرد بعض القوى المحسوبة على هذا الجانب أو ذاك من البلاد… حالة لم تعشها تونس فهل هناك من فرصة لخروج البلاد من أزمتها السياسية ؟ هل من سبيل إلى عودة الياسمين يانعا؟

نعم قد نقسو على التجربة التونسية حين ننقدها حُبّا في أرض الخضراء وازدراءً لمن عبثوا بمصالحها وسيادتها ردحا من الزمن من شارك في حكم تونس بعد 2011 وخاصة المكوّن السياسيّ الأبرز والحاضر في السلطة على امتداد العشرية وأعني حركة النهضة ومن يمثّلها وغيرهم كل أولئك يتحمّلون وزر ما وصلت إليها البلاد اليوم حتى غدت تونس ملفّا في أروقة بعض المنظمات الدولية والحكومات الشرقية والغربية يتلاعب بها المتلاعبون حيث مصلحتهم.

لكن، أن يتحوّل كل مَنْ يعارض موقف الرئيس إلى خائن وحشرات وشياطين… وغير ذلك من الأوصاف فذلك من شأنه أن يزيد في تعميق الأزمة لا حلّها؛ فتونس الخضراء لا تخلو، مهما حدث، من مخلصين وصادقين، من منظّمات وطنية، من قيادات وكفاءات شابة قادرة على أن ترسو بالبلاد في شاطئ الأمان.. أولئك يمكن أن يكون الحوار معهم سبيلا للخروج من الأزمة السياسية الخانقة. أمّا التشدد والتعصّب للرأي والتفرّد بالقرار في شأن وطني مختلف فيه، فلم يكن يوما نهج التونسيين ولا استفاد منه غير أعداء الوطن في الداخل والخارج.

إنّ موجة التحشيد والاستنفار والنفير والاحتكام إلى الشارع واستعراض القوة تنذر بعواقب وخيمة قد تزيد في حدّة الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتجعل تونس فعلا قبرا للربيع العربيّ بعد أن كانت مهدا له.. هذه الموجة لن تساعد أيّ طرف على إقناع الرأي العام الوطني والدولي بمدى شرعيّته.

 لقد آن الأوان أن يتعقّل الجميع، وأن يتخلّوا عن عقلية الإقصاء، وخطاب الترذيل للرموز الوطنية والارتفاع بالخطاب السياسي إلى مستوى يليق بهذه التجرية الرائدة؛ فتونس “حديقة فيها 100 وردة بـ100 لون” على حدّ تعبير الشهيد شكري بلعيد، تونس تسع الجميع.

مواضيع ذات صلة