كلمة أساتذة الفلسفة في أربعينيّة المرحوم : ” محمّد نجيب عبد المولى “

كلمة أساتذة الفلسفة في أربعينيّة المرحوم : ” محمّد نجيب عبد المولى “

27 سبتمبر، 18:00

كيف لي أن أتحدّث باسم زملائي في الفلسفة و أن أترْجم عمقَ كدرهم و أحزانهم و أن أصف حجم حسْرتهم و أشجانهم ، و العَبْرةُ عندي تسكنُ العبارة ، و اللّفظ منّي ينزُف مرارة ، فأنّى للمعنى أن يستقيم و في القلبُ جمرة و في الأحشاء حسرة و في الذاكرة تجربة حياة ، و أنّى للأفكار أن تنتظم و القلبُ يعتصرُ حُزنا و شجنا ، و الإحساسُ يفيضُ ألما و كدرا و كمدا و وجيعة ، على فراق رجل منّا و لنا ، هو عندنا الأخُ الكريم ُ و الصديقُ الحميمُ و الزميل المسؤول ، إنّه المرحوم و المغفور له بإذن الله تعالى ” محمّد نجيب عبد المولى ” . جمعتنا الرسالة التربويّة فنالنا شرف حملها وتحمّل أعبائها و ثقل مسؤولياتها لعقود من الزمن…يمضي الرجلُ و تبقى مآثرُه و الرجالُ مواقف و مآثر ، و مآثرُ فقيدنا كثرة كثيرة عصيّة على الحصر و التعداد ، و الاقتصار على علاقته بأساتذة الفلسفة مرافقة و تكوينا لا يضعنا في غفلة عن مواكبتنا لفعله الثقافي و نشاطه الجمعياتي المدني و التزامه بنشر ثقافة حقوق الانسان و قيم المواطنة أملا في وجود مدني أكثر معقوليّة ومعنى …  .عرفنا فيه الودّ و الجدّ ، الحزمَ و العزم ، فكان نعم الصديق و الرفيق أيّام الشدّة و الضيق ، نلجأ إليه كلّما أشكل علينا الأمرُ في شأن ما ، عرفناه صادقا صدوقا ، طيّبا خلوقا ، مؤمنا بالانساني خيارا و بالعمل قيمة و بالايتيقي منهجا ، عرفناه أستاذا ألمعيّا و متفقّدا حازما ذا حضور متميّز و تكوين موسوعي و شخصيّة كاريزميّة تفرض الاحترام و تدعو إلى الانصات لملاحظاته النقدية و مقترحاته العمليّة إلى درجة لم نكن معها قادرين على أن نرفض له طلبا أو مقترحا إن دعا البعضَ منّا إلى ترجمة نصّ أو إنجاز درس شاهد أو إعداد مداخلة أو إلى  المشاركة التطوّعيّة في لجان عمل، كنّا نُقْبل على هكذا أعمال بصدر رحب دون تشكّ أو تظلّم لأنّ جسر التواصل بيننا أعمدته الودّ والاحترام و مقاصدُه الجودة و تطوير المردود .

نشهدُ أنّ حرص فقيدنا على جودة الأداء التربوي درسا و تكوينا و امتحانات وطنيّة ، فضلا عن فعله الثقافي و نشاطه المدني ، كان بعزيمة لا تكلّ و إرادة لا تفل و جهد لا يُضاهى ، إلى درجة فاقت أحيانا مستطاع الجسد و قُدُراته على التحمّل عملابالمقولة الهيجليّة ” إنّ قيمة الإنسان ليست بما يملك بل بما يمْنح ” و مجسّدا لكوجيتو ” أنا أعمل إذن موجود “.نشهد نحن أساتذة الفلسفة أنّنا تعلّمنا الكثير من فقيدنا الذي ترك بصماته في أجيال عديدة من الأساتذة و في جهات مختلفة من الجمهوريّة ، إن تأطيرا أو تسييرا أو تكوينا معرفيّا و بيداغوجيّا .نشهدُ أنّنا تعلّمنا الكثير من انضباط الفقيد و حرصه على إحكام توزيع مسائل البرنامج على امتداد السنة الدراسيّة و على تطويرآليات بناء الدرس و إنجازه و اثراء محتواه و جودة مردوده ، تماما كما استفدنا من دعوته إلى ترغيب التلميذ في الإقبال على الدرس الفلسفي و إلى الانفتاح على مشاغل المعيش اليومي و على قيم المواطنة بما يجعل من تدريس الفلسفة فنّا و مهارة و جدارة و استحقاقا و اسهاما جادّا في تكوين مواطن فاعل و مسؤول فما عساه أن يكون الفيلسوف إن لم يكن ناحتا للإنسان في المدينة كما تساءل حكماء اليونان ؟ .

يا وجعي كلّ الوجع ، لله ما أقسى الفراق الأبدي لأحبّاء في القلب مسكنُهم ، و في الذاكرة مآثرُهم و في الوجدان بعضٌ من عَبقهم ، و ” فراقُ الحبيب يُشيبُ الوليد و يُذيبُ الحديد ” الفراق ُقاتل ، والغيابُ مدمّرٌ ، و الرحيلُ الأبديّ صانع للغربة ، فلا الزمان زمان و لا المكان مكان و لا العالم عالم ،تتعدّد المسمّياتُ ، تتنوّع الوضعيات  و الوجعُ واحدٌ ، و ها هو أستاذ الفلسفة اليوم  يقف اجلالا لروح الفقيد متألّما متكدّرا متحسّرا ملتاعا بعضه يأكل بعضا ،لله كم يلزمنا من الصبر على فقدان أحبّة و زملاء ودّعناهم الواحد تلو الآخر، الفراق قاتل و لكنّه يعلّمنا كيف نكون أقوياء ، فهذه مشيئة الله و لا رادّ لقضائه ،إنّها بلغة الفلاسفة  وضعياتٌ قصوى وأشياء أمرُها ليس بأيدينا ، وليس لنا إلاّ أن ننهل الدرس تلو الدرس من سيرة الفقيد و سيرتُه كتابٌ مفتوحٌ و معينٌ لا ينضب ، إنّ الوطن الذي به تعلّق ، فحمل همومَه و شجونه و قضاياه ، زمن مصادرة الحريّات و زمن الارتجال و الانفلات ، هذا الوطن سيتعافى و ستنفرج كُرْبتُه و سيتقوّم مسارُهُ يوما ما ، فلازال في وطني رجالٌ لم تلد الأرحامُ مثلهم …ليس لنا و الله غير الصبر و الترحّم على روح فقيد الجهة و فقيد الوطن ، فلروحه الرحمة و السلام و لذكراه الذكرُ والخلود ، و للوطن العزّة و الشموخ  و إنّا لله و إنّا إليه راجعون .

مواضيع ذات صلة