ما بعد كورونا…سليم مصطفى بودبوس

ما بعد كورونا…سليم مصطفى بودبوس

23 ماي، 17:00

حريّ بنا، بعد مرور نصف سنة منذ تفشّي وباء كورونا (كوفيد 19)، أن نقف عند بعض الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة التي تمثّل منعرجا في تاريخ البشرية؛ فمّما لا شكّ فيه أنّ هذه الجائحةَ جليلةُ القدر عظيمةُ الخطر،ولاشكّ أيضا أنّ إجراءات العزل المنزلي،فالحجر الصحي ثمّ منع التجوّل، فنزول الجيوش إلى الشوارع في العديد من بلدان العالم، وإغلاق الحدود بين مدن البلد الواحد وبين الكثير من دول العالم لَهِيَ أشدُّ عمليةِ عزلٍ قسريّ وحصار طوع يّمَرَّ بالإنسان على مَرِّ التاريخ، ولا شكّ أيضا أنّ الإنسانية ستتعلّم منها الكثير.

    لقد بات من المؤكد على راسمي السياسات الصحّية، وواضعي الموازنات المالية، أنّ يتبوّأ البحث العلمي مكانته التي يستحق،وأن يتوجّه إلى تعزيز صحّة الإنسان، فلا يعقل أن تكون المعلومات متوفّرة منذ ديسمبر (كانون الأول) 2019، عن أعراض وباء فتّاك غير معروف الأسباب، كانت قد تقدمت بها الصين إلى منظمة الصحة العالمية حين تفشّى الوباء في “ووهان” ومع ذلك لم تحرّك مراكز البحث ساكنا، بل ربما خشي أرباب الاقتصاد من السياسيين في العالم الخسائر التي قد يتسبب فيها العزل الاجتماعي، وإغلاق المؤسسات والشركات وتعطيل الحياة العامة.

وبسبب عقلية اقتصاد السوق هذه، فضّلت شركات الأدوية تصنيع كريمات البشرة على إيجاد لقاح أو علاجات للأوبئة المحتملة لأنها أكثر ربحا. لذا؛ فنحن اليوم أحوج إلى أن نتعامل مع مخاطر الأوبئة بشكل أسرع كما تعاملت معها الإنسانية في 2009 مع انتشار فيروس انفلوانزا الخنازير.وعلى المراكز العلمية الوطنية ومختلف الدوائر الصحية في مختلف بلدان العالم أن تخصّص الأموال اللازمة لتعميق البحث في الأمراض المستجدة ولا سيما الأوبئة.

وحتّى يتحقق بعض النفع من هذه الضارة عملا بالقول المأثور (ربّ ضارة نافعة) لا بدّ أن يتواصل الحد من انبعاثات الغازات السامة في الفضاء؛ فلقد أكّد علماء الرصد الجوّي اليوم أنّ أكبر ثقب للأوزون في القطب الشماليّ بدأ ينغلق أخيرا بفعل قلة الاحتباس الحراري الذي نتج عن إغلاق آلاف المصانع حول العالم، وتوقّف انبعاث الدخان المسبب للتلوّث البيئي الذي قلّ بنسبة 90%، وأكّد أولئك العلماء أنّه وبعد 4 أشهر من كورونا فقط عادت الأرض لمثل ما كانت عليها قبل 4 آلاف عام.

لقد أدركنا، نحن البشر،ضعفنا وتأكّدنا أنّنا كائنات هشّة وعرضة لغزو فايروسات خطيرة.ولأنّ (الجرّة لا تسلم من الكسر كل مرّة)سنعتمد ثقافة صحية سلوكية أكثر صرامة ممّا كنّا عليه، فالخوف من عودة الوباء وانتشاره من جديد سيفرض على الجميع عادات نظافة جديدة وجميلة ستكون السمة البارزة في عصر ما بعد كورونا؛ إذْ من الضروريّ أن نعمل على تعزيز ثقافة غسل اليدين والتباعد الاجتماعي والتقليل من بعض العادات الاجتماعية، مثل المصافحة والعناق والتقبيل، ولا سيما في لقاءاتنا نحن الشرقيين.

كما أنّ العديد من الدول ستعيد التفكير في سياساتها الاجتماعية والاقتصادية ولا سيما فيما يتعلّق بأولئك الذين يعيشون كل يوم بيومه “من اليد إلى الفم”، أولئك الذين قديموتون جوعاً أو عزلة من أصحاب المهن الهشة الذين تعطّلت بهم السبل، وستتعطّل أكثر فأكثر إذا واصلت النيوليبرالية المتوحشة سياساتها، وإذا اتسعت أكثر فأكثر الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العالم ككل.

إنّ العالم في حاجة ماسّة إلى إحلال قيم إنسانية عادلة في رسم سياساتها، قيم تعيد للإنسان إنسانيته حتى لا يكون مجرد أداة لإنتاج الثروة لدى قلة قليلة متحكمة في العالم. إنّنا في حاجة  ملحّة إلى النظر بعمق في مصطلحات وشعاراترنّانة طويلا ما تردّدت في تقارير التنمية البشرية الدولية في الدول المتقدّمة دون أن يُرى لها صدى حقيقيّ، ولمّا مرّت هذه الدول باختبار (كورونا) تأكدنا أنها كانت مجرّد حبر على ورق، ونعني هنا مفاهيم الأمن الغذائي، والحدّ من التفاوت الاجتماعي،والفقر، والصحة للجميع، والتنمية المستدامة… نعم، نحن في حاجة إلى عدم تغليب الصوت الاقتصادي لمنفعة النيوليبرالية المتوحشة، نحن بحاجة إلى توازن يضمن للإنسان كرامته.

.أمّا على المستوى الفردي فكل منّا له وقفة مع هذه الجائحة، ولاشكّ أنه استخلص منها درسا خاصا، واكتشف ما يكْمُن في ذاته من قدرات على تحمّل تَبِعات هذه الجائحة، وابتكار نمط حياتي جديد يتأقلم مع ما فرضتهعلى الجميع، فإن لم يبتكر لنفسه حلولا ولم يجد لحياته بدائل فنرجو من الله ألاّ يحتاج إلى جائحة أخرى كي يتعلّم.

سليم مصطفى بودبوس

مواضيع ذات صلة