رد الاعتبار لمادة التاريخ والجغرافيا من أجل تلميذ موسوعي …سامي النيفر

رد الاعتبار لمادة التاريخ والجغرافيا من أجل تلميذ موسوعي …سامي النيفر

22 جوان، 18:30

تعتبر مادة التاريخ والجغرافيا من أهم المواد التي يدرسها التلميذ في تونس وفي العالم إن لم تكن الأهم على الإطلاق.. ولكننا لا نوليها الأهمية التي تستحق في بلادنا.. التاريخ يدرس الزمان والجغرافيا تدرس المكان.. التاريخ والجغرافيا يطلان على كل المواد.. هي مادة موسوعية تطل على الفلسفة والدين والعلوم الطبيعية والهندسة والرياضيات والرياضة واللغات والآداب والفنون (مسرح، سينما، موسيقى، رسم،…) والإعلام والتربية المدنية وعلم النفس والاقتصاد والتصرف والتكنولوجيا القديمة والحديثة.. بل إن المادة تحتاج إلى معادلات رياضية ورسومات بيانية شبه معقدة بالإضافة إلى تحاليل فلسفية موضوعية ودراسات نقدية وهي تنمي ملكة الفكر والنقد والإبداع وتحقق هدفا كبيرا للنظام التربوي التونسي الذي يريد من التلميذ أن يعتز بهُويّته وأصالته وأن ينفتح على الحضارات الأخرى… لطالما حذّرنا أغلب الأساتذة الأجلّاء الذين درّسونا هذه المادّة العظيمة من أنها ليست سردا للمعلومات وحفظا دون فهم وتفسير للأحداث بل لطالما راوغونا وأعطونا أسئلة تحليلية نقدية لا تعتمد على خلاصة الكراس وسرد المعلومات بغباء.. حتى إن التلاميذ التي كانت تدخل “فوسكات” لا تستفيد شيئا وتجد نفسها في التسلل عند كثير من الأساتذة.. لعل التلميذ لا يشعر بقيمة التاريخ والجغرافيا إلا عندما يكبر فيتحسّر على ما فرّط في القسم في أيام شبابه بل ويتحسّر على تمزيق كراسه الذي هو بمثابة الموسوعة الشاملة التي يمكن أن يعود إليها في كل وقت.. من لا يعرف ماضيه وماضي الأمم الأخرى (بصفة عامة) فلن يتمكّن من القراءة الجيدة للأحداث ولن تكون له نظرة ثاقبة وواعية للعالم الذي نعيش فيه.. حتى السياسيون لو درسوا التاريخ والجغرافيا جيدا لعرفوا كيف يستثمرون الزمان والمكان وحاجات شعوبهم ومشاكلهم.. إن هذه المادة هي من أهم الروافد للثقافة العامة والذي يريد أن يكون طبيبا أو مهندسا أو رجل اقتصاد أو سياسيا أو إعلاميا وأن يحقق المجد والسؤدد عليه أن يدرسها جيدا.. إنّ التاريخ والجغرافيا هي الغائب الأكبر في امتحانات السادسة والتاسعة والباكالوريا (شعب علمية).. هل تعلمون أن تلاميذ IHEC والعلوم يدرسونها كمادة رئيسية في فرنسا ؟ ربّما علينا أن نوعّي المتعلّمين بقيمتها حتى لا يستهينوا بها وأن نبسّطها وأن ندرّسها على شكل حكاية أو خرافة نحلّلها ونأخذ منها عبرة وهنا أتذكّر بخير الأساتذة بهيجة اللوز ومحمّد الخبو من معهد علي البلهوان ومحمّد الحبيّب من معهد الهادي شاكر والذي كان حازما وكانت حصصه ممتعة ومفيدة في آن رغم أننا نخافه كثيرا ولكننا نعلم أنه مخلص في عمله ويريد لنا الخير حتى لو سخر منّا أحيانا ولطالما كانت فترة الشفاهي مخيفة لنا في أول الحصة ولكنه كان رعبا جميلا ومفيدا لأستاذ أعطى القيمة لنفسه ولمادّته.. وما يميّزه أنه كان يشرح لنا الدرس بعربية غير معقدة وربّما بالدارجة ثم نكتبه بالفصحى على الكراسات ونساهم في الخلاصة بملاحظاتنا وتحاليلنا فيترسّخ المعنى في أذهاننا.. وهل ننسى الدولة الأغلبية والفاطمية والحفصية والعثمانية و… ؟ وهل ننسى أبوليوس وأغسطينوس وحنّبعل وبعل حمّون وأبو الحسن الحفصي وتوزيع النفط والثروات بين دول العالم ؟ والله بعض الأرقام والملاحظات تبقى راسخة فينا بعد 20 سنة من دراستها… أغلب أساتذة التاريخ والجغرافيا كانوا يملّون علينا الدرس دون أن ينظروا إلى ورقة وكنتُ منبهرا من ذلك وكيف لا يخطئون رغم كثرة الأقسام والمستويات… أغلبهم متحدّث بارع على غرار السيد الأزهر التونسي الذي في كل حادثة يستشهد بما يماثلها عبر التاريخ شفاهيا ودون أن ينظر لورقة في أحاديثه علما أن مدير الموقع مع سي حافظ السيد وديع السيالة هو أستاذ تاريخ وجغرافيا أيضا… المطلوب منا اليوم تبسيط المعلومات وجعلها مادة مفيدة والتخلص من الفصحى الثقيلة والمكبّلات التي تجعل دراستها مملّة بعض الشيء.. والمطلوب أن تصبح ضارب 4 : التاريخ 2 والجغرافيا 2 مع تدريسها 3 ساعات أسبوعيا على الأقل.. هذا إن كنا نريد تلميذا موسوعيا واعيا.. نريد أن نبتعد عن التخصص فاليوم هناك من يتحصل على معدل مرتفع بفضل الرياضيات والفيزياء والرياضة والمواد الاختيارية… التلميذ الناجح هو الذي يحرز أعدادا جيدة في كل المواد طبعا مع بعض التفاوت ولكن لا يكون هناك اختلال كبير بين التّعلّمات فقد نجد طبيبا لا يفهم التاريخ أو عالم رياضيات لا يحسن التحدث بالفرنسية… المشكلة أيضا في تكرار كثير من التفاصيل منذ الابتدائي مرورا بالإعدادي وصولا إلى الثانوي إذ يجب أن ندرس الموضوعات من زوايا مختلفة.. ويجب أن تكون مادة “مخيفة” للتلاميذ أستاذها حازم ويحب صغاره.. “التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار ولكنه في باطنه نظر وتحقيق” وهو يعلمنا أحوال “الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في سياستهم ودولهم” هكذا قال العلّامة بن خَلدون الذي دعانا إلى التثبّت من الأخبار وتمحيصها ولا نأخذها مسلّمة بمجرّد النّقل.. وقد علّمنا أن التاريخ ” فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية”… عفوا على الإطالة ولكن التاريخ والجغرافيا يستحقّان أفضل من هذا المقال المتواضع الذي نأمل أن يجد قلوبا واعية وآذانا صاغية إذا كنّا نريد إصلاح التعليم وبناء إنسان ناجح ومبدع وبلد متطوّر.

مواضيع ذات صلة