صفاقس : بين المرمّة والمرمّة هناك مرمّة

صفاقس : بين المرمّة والمرمّة هناك مرمّة

21 ماي، 16:30

كثرت في السنوات الأخيرة حضائر البناء حتى كادت الأرض تُزلزل من تحتنا في باب الجبلي والناصرية وغيرها من المواقع التي حمّلوها فوق طاقتها فتارة تغرق عربة تحت الإسفلت وطورا تفور البالوعات وقنوات الصرف الصحي والخوف كل الخوف أن يستمر هذا النسق الجنوني ليس وسط المدينة فحسب بل في أطرافها إذ لو دخلتَ أيّ زنقة ستجد عشرات الحضائر في بضعة كيلومترات… لكأنّ العدوى تنتقل من شخص إلى آخر..

لم نعد نتحدّث عن الفيلّات بطابق أو اثنين أو ثلاثة بل لقد أصبحنا نشاهد عمارات وسط الزنق… وليتَ كل هذا يمرّ بسلام ولكنّه إزعاج للجيران بأصوات تنطلق منذ ساعات الفجر وحتى بعد المغرب ومعها إفساد لقنوات المياه وتكسير للجدران وترك حفر وحجارة في طريق ملؤوها بالإرشة والطين والأوساخ والمشروبات الكحولية وأحيانا روائح فضلات “بشرية” وما هكذا يتصرّف البشر في الأصل !!!

نتحسّر حين نعلم أنّ صفاقس كلها بعيدا عن قلب المدينة كانت بساتين غنّاء و”بْوِرْ” وحقولا شاسعة ترابها أحمر ناعم الملمس لا تجد فيه حجرة واحدة صغيرة… كانت حدائق مليئة بأشجار اللوز والزيتون والخوخ والتفاح والمشمش والياسمين والعنب والرّمّان… هكذا كان أجدادنا “المتخلّفون” قبل أن يحصل فينا هذا التطوّر أو التكالب فنصبح مدينة إسمنت وإسفلت مليئة بالغبار الذي وصل القلوب فأصبحت قاسية وكاسحة لا تهمّها إلا المادّيّة بعيدا عن حبّ العائلة والأصدقاء والجيران وبعيدا عن القيم الرّوحيّة… نتحسّر حين نرى الأحفاد يفرّطون في رزق الأجداد فيقتسمون الحقل على 10 وأحينا يفتكّ بعضهم نصيب إخوته من الميراث ثمّ يبيعون المناب المسروق…

الأجداد الذين كانوا يمتلكون هكتارات غاضبون لأنهم لا يجدون قبورا فيها يستريحون بعد أن يحوّلوهم من جبّانة إلى أخرى وهم غاضبون أيضا لأنهم لن يعرفوا أملاكهم التي أصبحت عمارات ومداخل زادت عن الحاجة…
الحقيقة المرّة التي يغفل عنها الكثيرون أنّ صفاقس لم تعد مدينة فلاحية تقليدية يحبّ أهلها بعضهم البعض ويتزاورون ويتركون بيوتهم أو أبراجهم مفتوحة لأنهم آمنون وللآخرين محبّون وللزّوّار مستقبلون..

خسرنا الفلاحة ولم نربح التّقدّم ولم نصبح مدينة عصرية بل الفوضى تعمّ كل الأماكن تقريبا في هندسة عشوائية تتكدّس فيها البناءات وقريبا ستهتزّ طبقات الأرض إن واصلنا على هذا النسق الجنوني… نقص الأشجار والمساحات الخضراء خطر على الأمن الغذائي والاقتصادي والأخلاقي ومساهمة فاضحة في الاحتباس الحراري ومشاكل البيئة…

ألسنا بحاجة إلى قرارات ثوريّة من الدولة أو حتى من البلدية تمنع صاحب الأرض أن يقتلع الأشجار من أجل بناءات “عصرية” على شاكلة ما حصل في “الخطاب ع الباب” حين لم يسمحوا لسلومة بتخريب التراث من أجل مشاريع باسم الحداثة المكذوبة ؟ إن اقتلاع زيتونة واحدة لأمر جلل لو كانوا يعلمون… ولكن يبدو أن تيّار الحياة العصرية والمشاريع التجارية أقسى قلوبنا وأخذنا نحو المجهول…..
سامي النيفر

مواضيع ذات صلة