مجرد رأي بين النقابي و السياسي، خيط رفيع (الجزء الثامن)… المنجي عطية الله

مجرد رأي بين النقابي و السياسي، خيط رفيع (الجزء الثامن)… المنجي عطية الله

29 جانفي، 20:44


إستعرضنا في الجزء السابع من هذه المتابعة التاريخية لأبرز المحطات الساخنة التي عرفتها تونس في علاقة بالسلطة و المنظمة الشغيلة منذ أحداث جانفي 1978 المأساوية التي ٱهتزت لها البلاد وخرج منها الإتحاد منهزما و منهكا ، فعادت السلطة لٱحتوائه من جديد بعد أن خلا لها الجو في ظل المحاكمات التي طالت قياداته و الزج بهم في السجون ،
بمكافأة التيجاني عبيد المسؤول النقابي السابق ، الذي تبرأ من قرار المنظمة القيام بإضراب عام و قدم ٱستقالته، بتنصيبه في مؤتمر صوري على رأس الأمانة العامة خلفا للحبيب عاشور الذي حوكم مع عبدالرزاق غربال بعشر سنوات سجنا مع الأشغال الشاقة ( ثم تم العفو عنه و تعويض العقوبة السجنية بالإقامة الجبرية في منزله) وهو موضوع سنتوقف عنده بعودتنا لوقائع ٱنتفاضة الخبز .
تنصيب التيجاني عبيد لقيادة الإتحاد كان بمثابة الهدنة لحكومة الهادي نويرة ٱمتدت حتى بعد مغادرته الوزارة الأولى و قدوم محمد المزالي لخلافته .
بعد خروج أغلب النقابيين من السجون و معاينتهم لما آل إليه الإتحاد من ضعف و هوان ، إجتمعوا بعد أشهر على تنظيم مؤتمر ٱستثنائي في مدينة ڨفصة بنية ٱسترجاع شرعية منظمتهم من قبضة السلطة حتى تستعيد ٱعتبارها و صلاحياتها في الدفاع عن مشاغل و حقوق العمال أو هكذا سوق لهذا المؤتمر في محاولة للظهور في موقع القوي .
مؤتمر ڨغصة رغم ما شهده من تصرفات مزاجية أحدثت تململا من بعض المؤتمرين الذين هددوا بالإنسحاب ، جاء في النهاية بالطيب البكوش أمينا عاما جديدا للإتحاد .
حقبة الطيب البكوش كانت بدايتها مستقرة عموما و لم تشهد تحركات نقابية معلنة ، فحتى ٱنتفاضة الخبز كانت تلقائية و قيل حسب بعض الشهادات التي نضيفها للأمانة التاريخية ، أن شرارتها أشعلها ثلاثة مواطنين من دوز لهم ميولات سياسية – يقال إنهم – ينتمون إلى حركة الوطنيين الديمقراطيين – دون تنسيق مع هياكل الحزب ، هزتهم الحماسة إلى تحرير عريضة ممضاة من مجموعة من الأهالي وتقديمها إلى المعتمد و كانت تتضمن ٱحتجاجا على قرار رفع الدعم عن المواد الأساسية الذي أعلن عنه في وسائل الإعلام و طالبوه بإبلاغها إلى السلط العليا في البلاد فلم يستجب لهم المسؤول المحلي و رفض تسلم العريضة فحدثت مناوشات في محيط المعتمدية تجمع على إثرها المارة ثم أنتقلت إلى السوق الأسبوعية و تطورت نحو الأسوأ حيث توسعت و ٱنتشرت في كل أرجاء الوطن خلال أيام قليلة و تعرفون بقية الحكاية .
فترة الطيب البكوش على رأس الإتحاد التي تزامنت مع قدوم محمد مزالي كوزير أول قبل أشهر ، عرفت بعض المشاكل الداخلية يمكن إرجاعها إلى تداعيات مؤتمر ڨفصة الذي ٱعتبره عدد من النقابيين الموالين للحبيب عاشور غير ذي جدوى و لا يختلف عن سابقه و وجهوا لوما للطيب البكوش الذي عجل بعد أشهر من خروجه مع عديد القياديين من السجون ، بتنظيم المؤتمر دون ٱنتظار الإفراج عن الحبيب عاشور بل هناك من ٱعتبره قد ٱستغل الفرصة للفوز بزعامة الإتحاد ، و نفهم من قراءتنا بين السطور
لما جاء في مذكراته ، أن الرجل ربما يكون قد ورط نفسه بإصراره على تنظيم المؤتمر الذي مكنه من ٱعتلاء سدة الأمانة العامة ، رغم أن ٱلأجواء في أوساط النقابيين كانت مشحونة بعد أحداث جانفي 1978 و ما آلت إليه من ٱعتقالات و أحكام ساعدت على خلق فراغ في العمل النقابي و ثمة من يتحدث عن حصول خيانات ٱستغلتها السلطة لٱحتواء المنظمة و السيطرة عليها من جديد .
أيضا الطيب البكوش حرص بشدة على تنظيم المؤتمر بكل مراحله رغم ماشهدته أشغاله من محاولات لإفشالها من خلال تهديد جانب من الحضور بمقاطعته و الإنسحاب من القاعة مطالبين بتأجيله حتى مغادرة الحبيب عاشور معتقله و للتخفيف من غضبهم وعدهم بإعداد لائحة تطالب السلطة بإطلاق سراحه يقع تلاوتها على الحاضرين حتى يلتزم بها المكتب الجديد ، و هذا ما حصل .
الطيب البكوش و قد بدا كأنه مشتبه به ، بحث عن درء التهم عنه ، بنفيه في مذكراته رغبته في الأمانة العامة في مؤتمر ڨفصة الذي ترأسه نورالدين حشاد نجل الزعيم فرحات حشاد و في مسعى لإبعاد
هذه “الشبهة ” عنه تحدث البكوش في مذكراته عن عدم قبول مجموعة كبيرة من المؤتمرين ترشيح عبد العزيز بوراوي قيدوم المنظمة للأمانة العامة رغم المحاولات التي بذلت من أجل إثنائهم ، في المقابل لم يتجرأ أحد على تقديم ترشحه إما خوفا من المسؤولية أو خوفا من ردة فعل أنصار عاشور ، فما كان من حسين بن ڨدور إلا مفاجأة الجميع بٱقتراح ترشيح أصغر المؤتمرين سنا و من يكون غير الطيب البكوش نفسه ، فتمنع وٱعتذر ولكن نورالدين حشاد رئيس المؤتمر ٱختلى به و ألح عليه بالقول ” إن الحكومة تنتظر مخرجات هذا المؤتمر للإحتفال بعيد الشغل في ڨفصة بالذات و أن المنظمات و النقابات العالمية و الصحافة الأجنبية تنتظر الكشف عن هوية الأمين العام الجديد و تقديم اللائحة الختامية للمؤتمر ، عندها قبل و تم الإعلان الرسمي عن ترشحه في قاعة المؤتمر ، فقوبل بالترحاب من قبل أغلب الحاضرين و الكلام طبعا للطيب البكوش . أيضا البكوش في محاولة لإبراز حسن نواياه ، يقول في مذكراته ، إنه بعد توليه الأمانة العامة لم يقبل بالترشح للإنتخابات التشريعية رغم الإتصالات المتكررة من الفاعلين في قصر قرطاج و الحكومة ، كما أصر على الٱعتذار للرئيس بورڨيبة عند ٱستقباله له في مكتبه ، و هنا يقول البكوش إن رفض الرئيس مطلبه بالإفراج عن الحبيب عاشور ، ربما يعود إلى تشبثه بعدم الترشح للمجلس النيابي .
الطيب البكوش برر في مذكراته هذا الموقف بالمحافظة على ٱستقلالية المنظمة الشغيلة عن السلطة حتى تقوم بدورها في الدفاع عن مكاسب و حقوق العمال دون حرج .
هذه الأجواء التي رافقت المؤتمر الإستثنائي عام 1981 ألقت بضلالها على نشاط الإتحاد حيث لم يشهد تحركات عمالية تذكر . ركود قد نجد له تفسيرا لٱنشغاله بإعادة ترميم البيت من الداخل ولكن الحقيقة على ما يبدو أن تولي محمد مزالي منصب الوزير الأول بما يتميز به من بلاغة وقوة في التواصل و الخطابة و الإقناع ، تمكن في البداية
من ٱستقطابه و وضعه في الزاوية إلى حين ٱنتفاضة الخبز التي ٱستغلها الإتحاد ليركب عليها من خلال المساعدة غير المباشرة في تغذيتها بما أنه يتبنى نفس المطالب وكثيرا ما نسمعه ينادي بالمحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين بتجميد أسعار المواد الأساسية التي تبقى ملاذ الفئات الضعيفة ، و حتى صمته في الإصداع بموقفه بوضوح ، يفسره البعض بأنه تعبير عن الرضا بما يحدث ، و قد تكون أجهزة الأمن تفطنت لذلك ، بعد “ٱشتعال” الشارع . يذكر أنه في ٱجتماع مشترك بين الحكومة و المكتب التنفيذي للإتحاد ٱعتبر محمد مزالي الإضطرابات مفتعلة لإزاحته من السلطة و كأنه يشير بالتلميح إلى ٱنخراط بعض الأطراف النقابية في هذا المخطط و قيل أيضا حسب بعض التسريبات أن وراء هذه المؤامرة كما وصفها مزالي ، الماجدة وسيلة و الحبيب عاشور بعد أن أخلي سبيله و وزير الداخلية أنذاك إدريس ڨيڨة الذي نفى في شهادة أدلى بها في يوم دراسي في مركز التميمي للبحوث التاريخية هذه الرواية…… دون الدخول في التفاصيل , تزامنت تلك الحقبة مع ٱحتداد الصراع في كواليس قصر قرطاج على الخلافة ، بعد أن تكاثرت أخطاءالرئيس بورڨببة بفعل المرض والسن ، من التعاضد 1969 إلى ٱنتفاضة الخبز 1984مروراً بأحداث الخميس الأسود 1978 .
الصراع على الخلافة تديره الماجدة وسيلة و زمرتها ، وطبعا الخلافة تمر عبر منصب الوزير الأول حسب الدستور .
نعود إلى العلاقة بين محمد مزالي و المركزية النقابية التي تدهورت بوجود شق متصلب بعد تحميله المسؤولية في تواصل ٱنتفاضة الخبز و سقوط قتلى و جرحى فكانت الحل في تقديره تأسيس نقابة بديلة و موازية تحت إسم ” الإتحاد الوطني لعمال تونس ” بالإعتماد على بعض القياديين القدامى على رأسهم عبد العزيز بوراوي ألذي نصبه أمينا عاما لها و أذكر أن محمد مزالي كان يطلق على أعضاء النقابة الجديدة صفة الشرفاء و لكن من سوء حظه أن مشروعه فشل بعد أن ٱصطفت القيادات الرسمية للإتحاد العام التونسي للشغل لتقويضها و ٱستعادة مشروعيتهم صلب منظمتهم العتيدة
في تراتبط بين الأحداث نفهم سر عودة الحبيب عاشور إلى الإتحاد لا كرئيس شرفي لإرضاء أنصاره في مؤتمر ڨفصة لكن هذه المرة من بوابة ٱنتخابات مؤتمر ديسمبر 1984 الذي تم التحضير له لإعادة الحبيب عاشور إلى قيادة الإتحاد وهو الذي أضحى قريبا من الماجدة و بالتالي من السلطة .
حسب بعض الروايات مؤتمر ديسمبر 1984 حصلت فيه تجاوزات عندما صعد سالم عبد المجيد على المنصة بينما كان عديد المؤتمرين خارج القاعة و ٱقترح ٱنتخاب الحبيب عاشور بالإجماع فتعالت أصوات مؤيدة و أخرى معارضة عندها توجه عاشور إلى الحاضرين بالقول ” سالم قدم ٱقتراحا و أنا قبلته و مباشرة تم المرور إلى التصويت برفع الأيدي بين مؤيد و رافض ، فما كان من أعضاء لجنة التنظيم إلا الوقوف أمام المعارضين الذين ٱحتلوا آخر القاعة لحجب أياديهم فلم يظهر منها إلا القليل فتم التصريح يفوز الحبيب عاشور .
وهكذا عاد الحبيب عاشور إلى زعامة الإتحاد و عاد الإتحاد إلى رحاب السلطة بأياد خفية ، و هكذا أيضا يصح قول العلامة عبد الرحمان ٱبن خلدون “التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار و في باطنه نظر و تحقيق ” .
إنتظرونا في الجزء التاسع ،،،


مواضيع ذات صلة